الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            تطبيقات المنهج في الإطار الأفريقي المسلم

            متابعتنا التطبيقية، وهي تسترشد بالركائز العامة التي عرفناها عن المنهج المعرفي الإسلامي، ستخضع في الوقت نفسه إلى ما تمليه الخصوصية الأفريقية المسلمة، وذلك على النحو التالي:

            أ- في مجال الأنثروبولوجيا أمام التفسيرات التي قدمها الباحث الأوربي عن الإنسان والمجتمع في أفريقيا ، فإنه بإمكان الأنثروبولوجي الأفريقي عرض ثقافته الخاصة وتحديد تقاليدها واتجاهاتها السائدة في إطارها، باعتباره الأقدر على سبر غور تلك الثقافة وتقاليدها من ذلك الأنثروبولوجي الأجنبي، الذي قد لا يقيس غيره إلا بمقاييسه هـو، ولا يفسر النظم والأنساق الاجتماعية الأخرى إلا بحسب رؤاه ومنطلقاته الخاصة.

            لنتأمل كيف أن الزعيم الغيني « جومو كينياتا » يصف النظام السياسي والاقتصادي لمجتمع « كيكويو » الذي سبق المرحلة الاستعمارية بأنه لم يكن استبداديا، ويعتبر إعطاء صورة سلبية عن النظام العقاري السائد آنذاك بمثابة التبرير الذي كان يقدم للاستعمار كي يمارس نهبه وتخريبه



            [1] . ثم لنلاحظ النقد الذي وجهه الشيخ «أنتا ديوب» - من السنغال - للأنثروبولوجيا الأوربية، وبالأخص في منحاها «التطوري» وما أشار إليه من محمولاتها الآيديولوجية. [ ص: 103 ]

            فالأوربيون حين تحدثوا عن التمدن الأوربي ومثيراته، وضاهوا المحيط الأفريقي السابق على الاستعمار بجهنم، واجههم «ديوب» بصورة أفريقيته السعيدة والقوية، التي تنفي تلكم المضاهاة المتحيزة، كما قدم بديلا معرفيا وصف من خلاله نظام العائلة الأفريقية - الموصوف سلبا في الأنثروبولوجيا الغربية - بالقول: «يمكننا أن نتصور، خلافا للاعتقاد السائد، أن الإنسانية بدل أن تنتقل من النظام الأمومي إلى الأبوي، قد انفصلت منذ البداية إلى نظامين، أحدهما آثر النظام الأمومي والآخر الأبوي، وهذا يعني رفض المقولة الأنثروبولوجية التي تعتبر النظام الأبوي يمثل المرحلة العالمية والأخيرة في التطور»



            [2] .

            وبصرف النظر عن تقويمنا لهذا التفسير، إلا أنه يمكن القول: بأن البحث عن تفسير خاص للظواهر، دون الاعتماد على التفسيرات الأنثروبولوجية الأوربية، يمثل اتجاها ضروريا لشق الطريق نحو تكوين أنثروبولوجية علمية مستقلة، وكما قال الرئيس «كوامي نكروما» أمام الأنثروبولوجيين في خطابه الافتتاحي للمؤتمر الأول للأفريقانيين ( أكرا ، عام 1962) : «لقد بلغت الأبحاث الأوربية عن أفريقيا ذروتها في القرن التاسع عشر، إلا أن المؤسف هـو أنها فسرت الاكتشافات تفسيرا ذاتيا لا موضوعيا. إن قسما كبيرا من هـذه الكتابات الأوربية والأمريكية كان تبريريا. لقد كانت محاولة لتسويغ الرق والنهب الإجرامي. لقد كانت هـذه الدراسات في أتعس [ ص: 104 ] حالاتها من الناحية العلمية. وبعد القضاء على العبودية لم يعد للدراسات الأفريقية أي حجة للتذرع بالدوافع الاقتصادية، ولذلك أخطر خبراء الدراسات الأفريقية بأن يغيروا منحاهم واتجاهات كتاباتهم، فشرعوا بكتابات وصفية تناولت المجتمعات الأفريقية من أجل تبرير الاستعمار باعتباره واجبا حضاريا، حتى أن أكثر هـذه المؤلفات حصافة إنما تفتقر إلى الموضوعية، وهذا ما يوضح برأيي الشعبية الهائلة والنجاح الذي لاقته الأنثروبولوجيا باعتبارها عنصرا هـاما في الأبحاث الأفريقية»



            [3] .

            إن التعايش مع المجتمع المزمع دراسته، والتواصل المستمر مع عناصره وبناه، وامتلاك القدرة الجيدة على التمييز بين ما هـو قديم فيه وما هـو جديد، وإدراك مدى العلاقة بين العنصرين، ثم الغوص في تضاعيف الظواهر، هـو ما يوفر إلى حد كبير المعرفة الأكثر دقة وتعبيرا، وكما قال « ليو - س- يو » (من الصين الشعبية) في كلمته التي وجهها إلى مؤتمر أكرا المشار إليه: «فالأفارقة بالذات الذين ولدوا وكبروا في أفريقيا هـم الذين يعرفون أكثر من أي فرد آخر.. وهم الذين يدركون بعمق أماني شعوبهم وتطلعاتهم، لذلك تستطيع الأبحاث الأفريقية التي يقوم بها الأفارقة الوصول بسهولة إلى الحقائق وإلى النتائج العلمية الصحيحة» .

            ولاشك أن الاستعدادات التي يمكن أن يتوافر عليها ابن البيئة قد لا يتوافر عليها الأنثروبولوجي الأجنبي، والأسئلة التي يطرحها هـذا، وهي في [ ص: 105 ] صميم الموضوع، قد لا تعني ذاك، لهذا فإن العمل على تكوين معرفة داخلية لأنثروبولوجيا محلية خاصة بأفريقيا يتطلب استعدادات ومنهج وأسئلة ومفاهيم وتحليل وأنساق تعبر بشكل حقيقي عن إنسان هـذه الكتلة، وعن واقعه الموضوعي، وتاريخه الصحيح، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن اكتشاف «الحقائق النسبية» الخاصة بأفريقيا المسلمة ومراكمتها من خلال الرصد التسجيلي والتحليل الموضوعي لا يمنع الاستئناس بما كتب عن أفريقيا المسلمة من قبل قدامى العلماء والرحالة المسلمين، كابن خلدون وابن بطوطة ، أو ما ترك من صحيح التراث الوصفي أو التحليلي أو التنظيري من قبل بعض الأنثروبولوجيين الأوربيين أنفسهم.

            كما أن الربط بين معطيات الواقع ومبدأ التغيير، في إطار الأهداف الإسلامية، هـو من التطلعات المشروعة للباحث الذي يفكر بالمعرفة في إطار مشروع نهضوي، وعلى النحو الذي يتم من خلاله إبراز العلاقة بين «الشرع» و «حركة الإنسان» سواء كانت تلك العلاقة تظهر فيما بينهما الاقتراب أو الابتعاد، التفاعل أو التنافر. لهذا يسوغ للدراسة الداخلية التي تعنى بالإنسان والثقافة والتقاليد والبنى الاجتماعية طرح الأسئلة في ضوء الاعتبارات المعيارية (المسلمات والغايات) كما هـو الحال عند مقاربة إشكالية الاختلاف والفرقة بين مسلمي القارة، فإذا كان تناول الباحث المسلم لها بصفتها «حقيقة اجتماعية» فإن ذلك لا يمنع من استصحاب مبدأ الوحدة بصفته «حقيقة شرعية» حتى أن تحليله الموضوعي للتناقضات [ ص: 106 ] أو الصراعات الداخلية لا يلغي استخدام الوحدة كمفهوم موجه للتحليل، كما لا يخرجه عن دائرة البحث العلمي؛ لأن ثمة تلازما بين «المعيارية» و «الموضوعية» في المنهجية الإسلامية



            [4] طالما أن توفير الانسجام بين العناصر الاجتماعية المتنوعة



            [5] هـو من مهام البحث الاجتماعي الملتزم، وبهذا سيكون الباحث المسلم مختلفا عن الباحث الغربي الذي يتحرك بمنهجية لا تنشغل بشيء من ذلك، بل ربما اهتمامها بما هـو سلبي في الواقع الأفريقي أكثر من اهتمامها بما هـو إيجابي، ناهيك عن عدم تعاملها مع العلم بصفته أداة للإصلاح أو التغيير.

            إن منهجنا يقوم على البدء بحصر الواقع، وتشخيص ظواهره المرضية، والكشف عن أسباب تلك الظواهر، وحصر عوامل استمرارها، كما يعمل في الوقت نفسه على تشخيص ظواهره الصحية، والكشف عن أسبابها، مبينا عوامل استمرارها. وهذا المنحى في توازنه هـذا لا يتناقض مع ما إذا سعى الباحث إلى تعظيم ما هـو إيجابي ومحاصرة ما هـو سلبي، انطلاقا من ثوابت النظرية الاجتماعية الإسلامية.

            ب – في مجال التاريخ تقسيم التاريخ الأفريقي إلى قديم ووسيط وحديث هـو تقسيم مرفوض، كرفض مقولة: إن تاريخ أفريقيا المسلمة غير [ ص: 107 ] ذي قيمة قبل دخول الاستعمار. فمصطلح «القرون الوسطى» يشير إلى مرحلة عاشتها أوربا حيث سلطان الكنيسة، وسيطرة الإقطاع، وتعرض العلماء إلى العسف ومصادرة الحريات ونحو ذلك، مما جعلها مرحلة لا تذكر بخير. وسلبيات هـذه المرحلة ومثالبها لا يصح أن تتجاوز إطارها التاريخي الجغرافي المحدد، وبالتالي لا يصح إسقاط دلالاتها الرمزية وما اكتنفها من ظلمات على تواريخ الآخرين، بخاصة أن المرحلة الموازية لها في المجال الإسلامي تميزت بانفتاح وتسامح لا بأس بهما، كما لم تشهد صراعا بين السلطة والعلم، بل برز خلالها علماء ومبدعون كبار كالفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون وابن بطوطة وغيرهم، وبالتالي فمن الخطأ المنهجي سحب الظلال السلبية التي شهدتها القرون الأوربية الوسطى على التاريخ الإسلامي، سواء في مجاله الأفريقي أو في غير هـذا المجال.

            من جهة أخرى، أن التاريخ الأفريقي في هـذه المرحلة لم يكن معزولا عن محيطة العربي والإسلامي، ومن الأجدر أن لا تغفل العناصر الإيجابية التي وفرتها علاقة الأفارقة المسلمين بالمحيط المذكور.

            ومن هـنا ستختلف رؤية المؤرخ المسلم عن رؤية المؤرخ الغربي، وهو يسوق المصطلح المشار إليه آنفا، فإذا كان الغربي لا يرى تحت هـذا المصطلح غير الحالة الظلامية والتخلف، انطلاقا من تجربته الخاصة، فإن المؤرخ المسلم يرفض سحب ذلك على أفريقيا التي شهدت بالفعل حضارة إسلامية وممالك نبتت في ظل الإسلام بدرجة أو أخرى، بحيث يمكن التقرير بأن أفريقيا المسلمة مرت أثناء هـذه المرحلة بوضعية متقدمة نسبيا، نهض خلالها الأفريقي [ ص: 108 ] متجاوزا الكثير من حالات الوثنية والتخلف، وبلغ عبرها بعضا من حالات من التحضر، سواء في الرؤية الكونية أو في بناء النظم والعلاقات.

            كذلك الحال بالنسبة لمصطلح « الحداثة » المرتبط بالعصر الأوربي الحديث، والذي يقدم عادة كعنوان لكل ما هـو إيجابي، في إطار مفاهيم الديموقراطية والعلمانية والليبرالية والعلم، بينما دلالة ما يفرزه هـذا المصطلح في السياق الأفريقي لا تشير إلى حالة من التقدم، حتى بمنطق المفاهيم المذكورة، لأن أفريقيا لم تشهد في ظل «الحداثة» المزعومة غير الاستعمار والقهر والاستغلال والتخلف والتشوه واستلاب الهوية، وبالتالي لا يمكن إسقاط الرؤية التاريخية الأوربية التي يعبر عنها هـذا المصطلح على الواقع الأفريقي.

            من هـنا فإن علم التاريخ، بمنظوره الإسلامي وفي إطار دراساته الأفريقية، لا بد أن تكون له مصطلحاته ونظرياته وتفسيراته، التي يفرضها الواقع الموضوعي من جهة والنظرة التفسيرية الإسلامية العامة للتاريخ من جهة أخرى، بحيث تصبح دلالات التخلف والتقدم بموجب ذلك مغايرة للدلالات المتعسفة التي يفرضها المنظور الغربي.

            أما عن تاريخ أفريقيا السابق على الاستعمار، وتحديدا تاريخها الإسلامي المقدوح لدى المؤرخ الأوربي، فالدراسة الموضوعية تكشف جملة من الحقائق تعامى عنها الأوربي وهي جديرة بالتسجيل:

            1- أن الإسلام انتشر في أفريقيا بطريقة سلمية عن طريق التجار والدعاة والمهاجرين والمتصوفة، الذين اختلطوا بالسكان الأصليين وتمازجوا [ ص: 109 ] معهم بلطف وهدوء كان من نتائجه ذلكم التأثير الفريد الذي انتهى باعتناق الكثير من الأفارقة الديانة الإسلامية دون أن تفرض على أحد منهم.

            2- أن المرحلة التي بلغت فيها قوة الإسلام في أفريقيا حدود إنشاء الدول وتأسيس الممالك والإمبراطوريات، هـي من المراحل التي أكسبت الأفارقة رؤية اجتماعية أكثر تقدما، حيث الناس كثيرا ما يتجاوزون ولاءهم القبلي وينخرطون في الولاء الأوسع، ناهيك عما شهدوه في ظل تلك النظم من أنماط حياتية متطورة.

            3- من الحقائق الجديرة بالتسجيل أيضا، أن دخول الإسلام وتغلغله في القارة لم يكن مدعاة لإحداث صدمة أو انقلاب جذري في حياة السكان، فالعديد من الدراسات أكدت أن الإسلام حين دخل القارة اندمج مع التركيبة الاجتماعية والدينية السابقة، واستطاع أن يحدث تغييرا هـادئا من الداخل دون أن يعمل على طمس التراث الإفريقي السابق، بل أبقى على العديد من عناصره ومفرداته ولم يتعرض لها، بخاصة أن الكثير من العادات والتقاليد استمر حيا بعد دخول الإسلام، الأمر الذي يمكن معه القول: بأن الإسلام قد مثل في أفريقيا مظهرا من مظاهر الوحدة الداخلية بين الجماعات، كما يقول « هـرسكو فتش »



            [6] .

            4- ضمن هـذا التعاطي المنهجي، يمكن مناقشة ما سبقت الإشارة إليه من أمثلة للكتابات الغربية، التي حاولت تشويه الدور الإسلامي، فنقول: بأن [ ص: 110 ] هذا الدور تحدد ابتداء بالجهد الدعوي للتجار المسلمين الذين كسبوا في البداية طبقة المتنفذين - كما نوه إلى ذلك البحث الغربي - ولكن إلى جانب ذلك لا بد من إبراز حقيقة تجاوزها ذلك البحث حين صاغ مفاهيم «التلاؤم Adaptability» و «المجتمعات المتجزئة segmentary societies» و «المرونة Flexibility» و «القوة» لتفسير إسلام الجماهير الأفريقية، تلك الحقيقة هـي أن الأفارقة آمنوا بهذا الدين وتقبلوه في مختلف بيئاتهم وطبقاتهم حتى شمل انتشاره شرق القارة وغربها ووسطها، كما كان ظهوره بين علية القوم وعامتهم على حد سواء، حتى أن العشرات من العلماء والدعاة والمصلحين قد ظهروا من بين الأفارقة ممن شرع منهم بعملية الدعوة واستمرارية حماية هـذا الدين ونشره.

            بل أن ثمة حقيقة أخرى يدركها الباحث المسلم أكثر من غيره، هـي أن الإسلام في مجمل قيمه وفلسفته هـو أقرب إلى نفسية الشعوب الأفريقية وفلسفتها من أي دين أو منهج آخر. فتأمل مثلا بعض الملامح الفلسفية للحياة في بلد كغانا وقارنها بفلسفة الحياة الإسلامية



            [7] ثم أجري مقابلات بين بعض عناصر العقيدة الفطرية والعقيدة الإسلامية لترى كم هـي أوجه التقارب بين العقيدتين



            [8] ، كما راجع ما قاله ابن بطوطه ، وهو يتحدث عن [ ص: 111 ] التزام أهل « مالي » ببعض قيم الإسلام وأخلاقياته، وكذلك ما قاله حديثا رفاعة الطهطاوي وهو يصف الحرص والالتزام الإسلامي عند أهل شمال السودان ، وأقوالا أخرى بهذه المعاني قالها رحالة أجانب تدل كلها على أن الأفارقة مهيأون بطبيعة تكوينهم لقبول الإسلام والتجاوب معه



            [9] . أما موقف «التلاؤم» أو الطاعة لأولي الأمر، مع موقف «القوة»، تجاه (الآخر) الذي كان محل نقد الباحث الغربي، فله تفسير آخر يدركه عالم الاجتماع السياسي المسلم، الذي يعي الحقيقة من وجهين:

            الأول: ارتباط المسلمين بالشرعية السياسية عبر الولاء لها وطاعتها على الصعيد العام.

            الثاني: واجب حماية الدعوة والدفاع عن الشرعية السياسية، الذي يحتم الأخذ بأسباب القوة حتى عند بناء العلاقات السلمية مع (الآخر) .

            - أما بالنسبة لظاهرة الرق، فقد غالطت كثير من الكتابات الغربية حين زعمت بأنها ظاهرة عربية إسلامية، وكان الهدف من وراء ذلك النيل من الإسلام وتوتير العلاقات الأفريقية العربية، فضلا عن التغطية على دور الغرب السيئ الصيت في هـذا الخصوص.

            إن مما يجب قوله بشأن ظاهرة الرق هـو: إنها كانت على ارتباط وثيق بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية لكثير من المجتمعات القديمة، كما أنها اقترنت [ ص: 112 ] بوقائع الحروب، فضلا عن أن ثمة استرقاقا جبريا واسترقاقا طوعيا، ولعل ذلك كله يقودنا إلى ضرورة معاينة الظاهرة في إطار ملابساتها التاريخية وظروفها الخاصة، وبالتالي الرد على المصادر الأجنبية، التي تحاول حصرها في النطاق العربي والإسلامي



            [10] مع أن أية دراسة مقارنة ستلحظ جملة من الحقائق يمكن أن نشير إلى أهمها:

            1- أن الإسلام نهى عن الرق واعتبر «فك الرقاب» عملا من أعمال البر والخير التي يثاب فاعلها، كما اعتبر منح الرقيق الحرية من كفارات الذنوب:

            ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة ) (البلد:11-13)

            وهذا هـو ما يحدد الموقف الإسلامي المعياري من الرق ابتداء، على خلاف الموقف الغربي الذي لم يعلن إنكاره للظاهرة إلا في وقت متأخر نسبيا.

            2- إن أغلب ممارسات الرق العربية والإسلامية كانت ممارسات فردية، فيما كانت الممارسة في نطاقها الأوربي والأمريكي تأخذ طابعا جماعيا ومؤسسيا وبشكل واسع وبشع.

            3- اندراج الرق ضمن النسيج الاقتصادي والاجتماعي السابق على ظهور الإسلام قد جعل أمر محاصرته ينحى منحى متدرجا، مع إخضاعه إلى ضوابط وواجبات كان الرقيق في ظلها كالأولاد بالنسبة لوالدهم، [ ص: 113 ] أو كالتلامذة بالنسبة لأستاذهم، ولهذا كان الأرقاء في إطار الاجتماع العربي والإسلامي جزءا من الأسرة، وكثيرا ما منح العديد منهم الحرية، بل وارتقى بعضهم أعلى الدرجات على خلاف الوضع في ظل الممارسة الغربية، حيث عانوا صنوفا من القهر والإذلال والنقل القسري والجماعي للعمل في المصانع والمزارع الأوربية والأمريكية وفي ظروف شديدة الوطأة والتعسف.

            4- إن المتاجرة بالرق التي مارستها الدول الغربية استمرت في تأثيرها المدمر على السكان في أفريقيا لفترة أربعة قرون كاملة، وحين تشبعت تلك الدول بهذه التجارة بما وفرته لها من أيد عاملة اختفت الحاجة إليها، لهذا انعقد مؤتمر برلين في العام 1885م لإنهاء الظاهرة، ولكن بعد أن حصد الغرب منها أكبر المغانم



            [11] اللامشروعة، فيما كانت في مجالها العربي والإسلامي في انحسار منهجي متواصل، بحيث لا وجه للمقارنة بين وضعها في هـذا المجال وذاك.

            وبناء على ما تقدم، فإن الباحث المسلم، وهو يتناول هـذه الظاهرة، لا ينكر حقيقة وجودها في المجال العربي والإسلامي، بل أن الإقرار بها ضمن سياقاتها التاريخية والاجتماعية والشرعية هـو أحد عناصر الموضوعية في المنهج المعرفي الإسلامي، ولا يخل بهذه الموضوعية إذا ما طرح الموقف المعياري (الإسلامي) الذي يشجع على محاصرة الظاهرة، وهو ما تمت ترجمته بالفعل [ ص: 114 ] في سياق مواجهتها التدريجية مذ كانت قوية في الوسط الذي لم يبرح جاهليته بعد.

            إن مجمل ما يمكن قوله في منهجية التناول الإسلامي لتاريخ أفريقيا المسلمة هـو: إنه منهج يصف الإيجابيات ولا يغفل عن السلبيات، وحيادية الوصف والتشخيص إذ تتم مقيدة بمعطيات الواقع دون طمس أو تزيد فإن ذلك لا يلغي ضرورة التأكيد على البعد المعياري الإسلامي وإدخاله في الحسبان لمعرفة مدى التفاعل بين الواقع والمعيار، وتوضيح مدى الاقتراب أو الابتعاد بين الاثنين في إطار من الموضوعية والتحليل الناقد



            [12] . لكن النهوض بمنهج كهذا لا يتم بشكل رئيس إلا على أيدي الأفارقة المسلمين أنفسهم، ذلك أن كاتب التاريخ الاجتماعي لا بد أن يبرز من داخل ذلك التاريخ، ويفكر في إطاره، كيما تتوضح أمامه الرؤية، شرط تجنب ضباب التحيز اللاموضوعي الذي يفرضه الانتماء.

            لهذا، ليس بعيدا عن الصواب القول: بأن الوعي التاريخي الأفريقي الحقيقي ستؤرخ بدايته منذ اللحظة التي يتعاون فيها مؤرخو القارة على إعادة كتابته، بعيدا عن التوصيفات أو الأحكام المكتوبة بعقول الآخرين. ولكن لا يمنع ذلك إبقاء ما يعد موضوعيا مما كتبه (الآخر) بعد إشراطه بقانون المطابقة بين الذات والوجود التاريخي، وهو ما لا يتم دون فهم الجزء من خلال الكل، وفهم الكل من خلال الجزء



            [13] . [ ص: 115 ]

            وهذا يعني أن بإمكان الباحث، غير الأفريقي، بخاصة من هـو قريب له كالعربي والمسلم، إذا ما توافر على شروط الأمانة والدقة، أن يكتب في التاريخ الأفريقي مثلما فعل « اليعقوبي » و « المسعودي » و « ابن قتيبة » و « ابن خلدون » و « القلقشندي » و « الإدريسي » الذين وصفوا أفريقيا وكتبوا عن شعوبها وبلدانها على نحو شهد لهم بالجدارة « كوامي نكروما » حين قال: «إن الرحالة العرب كانوا غير متحيزين فيما دونوه عن أفريقيا، ونحن مدينون لهم فيما كتبوه عن ماضينا» .

            وأخيرا، نشير إلى أن منظمة اليونسكو - وبخاصة في عهد رئيسها « أحمد مختار أمبو » - قد أسهمت في جهد علمي استهدف إزالة الكثير من التضليل، الذي روجت له بعض المؤسسات العلمية في أوربا عن التاريخ الأفريقي والحياة الاجتماعية في أفريقيا، بخاصة في جوانب اتصالها بالإسلام والثقافة العربية



            [14] .

            ج - في مجال السياسة وعلم الاجتماع السياسي سبق أن عرفنا كيف أن الدراسات الغربية، التي تناولت مسائل السلطة والظواهر السياسية وقضايا التحرر والاستقلال في أفريقيا المسلمة، قد انطلقت من منهجية مشبعة بروح التحيز والنفعية السياسية، الأمر الذي يدعو إلى العمل على تكوين بديل منهجي تقارب خلاله مسائل السياسة والسلطة والعلاقات السياسية على النحو الذي يعبر عما يتبناه المجتمع، ويوفر التحليل الموضوعي للواقع، ويلفت النظر إلى احتياجاته الحقيقية، ويكرس العمل باتجاه غاياته المرتضاة. [ ص: 116 ]

            وإذا كان الاستعمار الغربي قد بذل جهودا كبيرة في تغريب الحياة السياسية في المجتمعات الأفريقية، فإن الذي لا يصح تجاهله هـو أن المتغير الديني كان له أثره في هـذه المجتمعات، لذلك لا بد من دراسة العلاقة بين الظاهرتين، الدينية والسياسية، وإعطائها أهميتها، ومتابعة انعكاساتها، سواء بالنسبة لتحديد غايات السياسة



            [15] أو بناء المفاهيم، أو وضع التصور الملائم لبناء النظم وأشكال المؤسسات. فإذا كان البحث الغربي يطرح مفاهيم «الحرية» و «المساواة» و «التوازن» وغيرها فإن للمجتمع الأفريقي المسلم مفاهيمه السياسية، سواء ما تشكل منها عبر الخبرة التاريخية أو ما كان يؤمن بها الأفارقة بصفتهم مسلمين مؤمنين بالنظرية السياسية الإسلامية، كمفاهيم « الشورى » و «العدل» و «المساواة» ونحوها من المفاهيم التي تنظم الحياة العامة.

            وإذا كان الباحث الغربي يركز على ظاهرة الفرقة، ويستخدم مفهوم الصراع عند تناوله العلاقات الداخلية، فإن الحل لا يكمن في فكرة الدولة «القومية» أو « العلمانية » إذ بإمكان الباحث المسلم تحريك مفهوم «الأمة»، واستدعاء المخزون الثقافي الذي تركته بعض التجارب السياسية كتجربة مملكة « غانا » و « مالي » و « الصنغاي » في القرن العاشر، وتجربة إمارة « الهوسا » وسلطنة « كانم بورنا » في القرن الثاني عشر، حيث توحدت في ظلال هـذه التجارب القبائل والجماعات. وعلى هـذا الأساس يمكن اقتراح النموذج السياسي الذي يمكن من خلاله تلافي نقائص الدولة القومية أو العلمانية. [ ص: 117 ]

            ثم إن نقل الهياكل المؤسسية الأوربية لا يمثل بالضرورة استجابة لطبيعة الواقع الأفريقي المسلم، أو يلبي احتياجاته، أو يتماشى مع اتجاهاته الحقيقية، وهذا يعني أنه ليس بالضرورة أن يكون الشكل الحكومي برلمانيا أو رئاسيا أو جمعية وطنية، ولا أن تكون السلطة موزعة إلى ثلاث وليس إلى اثنتين أو أربعة



            [16] بخاصة وأن المجتمع الأفريقي المسلم كانت له مؤسساته التي عرفها قبل الاستعمار، فضلا عن صور المؤسسات التي حددها الفكر السياسي الإسلامي، والتي لا زال بعضها حيا في ضمير الناس، وقد يكون بعضها أكثر انسجاما مع المعادلة الاجتماعية والغايات المرتضاة، مع أن ذلك لا يمنع اقتباس ما هـو مناسب، ولعل في صيغ الفيدرالية ومؤسسات المجتمع الأهلي



            [17] ما يناسب مواجهة إشكاليات التنوع التي يعيشها الواقع الأفريقي الراهن.

            إن فكرة النظام السياسي القائم على مبادىء العدل والحرية والديموقراطية، والذي يتم بناؤه على أسس الشرعية والإرادة الشعبية، ليس بغريب على المجتمع الأفريقي، حيث عرف تاريخه مثل هـذا النظام، وتثقف على قيمه، حتى أن تأثيرات المضمون السياسي للإسلام لم تتوقف على وجود ممالك أو محاكم إسلامية، بل امتدت - كما يقول علي المزروعي - إلى المصطلحات المستخدمة في علم السياسة



            [18] ، لهذا لم تكن المرحلة السابقة للاستعمار خالية من المؤسسات، بل أن الأوربي حين دخل القارة وجد [ ص: 118 ] مؤسسات متجانسة ومتماسكة تحكمها أنساق فكرية، وتنظيمات قانونية، تجمع بين العقائد السائدة والبنى المنظمة كنظام الأسرة الممتدة، والقرية، والحارة، والنقابة، والحرفة، والجامع، والطريقة



            [19] لكن المستعمر أوجد انقطاعا معرفيا، وربما سلوكيا، حين زرع جملة من المؤسسات فضلا عن المفاهيم المغلوطة، وجعل من القبيلة وحدة سياسية ومركزا للولاء، فيما كان الولاء السابق يميل إلى الشرعية المستمدة من تعاليم الإسلام في العديد من الديار الأفريقية المسلمة.

            وإذا كانت الخبرة السياسية السابقة في أفريقيا المسلمة قد عرفت جملة من النظم والقوانين المتقدمة، وشهدت ما يمكن تسميته بـ «الديموقراطية الواسعة»، فإنه من الجدير أن لا تتم دراسة السياسة والظواهر السياسية بعيدا عن تلك الخبرة ومعطياتها الظاهرة أو الكامنة، التي تشكل بمجملها روح المعادلة الاجتماعية السياسية، تلك المعادلة التي من شأنها إفراز الحقائق النسبية للواقع، والتي تصلح بالتالي مصدرا للتنظير والتفسير وصياغة المفاهيم واقتراح الحلول.

            إنه علينا ملاحظة أن الاستعمار قد سعى للقضاء على البناء الثقافي الأفريقي المسلم، وعمل على تجميد مؤسسات المجتمع التقليدية، ومنعها من المشاركة، إلى الدرجة التي أصبحت بموجبها البيئة السياسية غير مطابقة لواقع البيئة الاجتماعية التقليدية، حتى أن الكثير من الناس لم يجدوا في أنفسهم القدرة على التفاعل مع ما اصطنعه المستعمر من هـياكل سياسية، وهو [ ص: 119 ] ما يتضح على نحو خاص مع النظم العسكرية، التي لم تكن لتمثل القيادة المعبرة عن الأصالة والطموح، ناهيك عن أدوارها السلبية في تخريب المؤسسات والبنى الاجتماعية، بل وقوفها في وجه قوى التحرر



            [20] .

            إذن، من الضروري أن يعنى البحث في العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي بهذه الحقائق، يشخصها، ويحلل عوامل نشأتها وتكونها، والنتائج التي ترتبت عليها، وبالتالي صياغة النظريات والمفاهيم المعبرة عنها، تمهيدا للبحث عن البدائل والمقترحات الملائمة، بعيدا عن المناهج «الوظيفية» و «الأمبيريقية» التي تعنى بما هـو قائم، للحفاظ عليه أو تبريره.

            إن الانطلاق من الإيمان بنظرية سياسية مستقلة، تعبر عن الواقع، وتعكس تطلعات الناس، ثم التعامل مع الواقع السياسي المصطنع بشكل نقدي، عبر الاحتكام إلى القيم والتطلعات المشروعة في الاستقلال، وصيانة الذات، ونبذ التبعية، ورفض حالات التمزق والاغتراب، لهو المنهج الذي ينسجم مع هـدف بناء الشرعية والوحدة وإقامة مؤسسات المشاركة، سيما في مجتمع ينبض بهذه القيم ويشعر بقيميتها.

            إن الاهتمامات البحثية لا بد أن تحددها أولويات الواقع، واحتياجات المرحلة، وهذا ما يمكن تطبيقه عبر الانشغال بالقضايا المهمة، والنوعية، والملحة، كمسألة التبعية، وحركات التحرر، وظاهرة الانقلابات العسكرية، والاغتراب السياسي، ونحوها. [ ص: 120 ]

            وإذا كان الباحث الغربي يهتم بالولاء القبلي بديلا للولاء للأمة، ويعتبر الظاهرة الاستعمارية تحديثا لا سيطرة، والتبعية تطورا لا تغريبا، وحركات التحرر تمردا لا حقا وطنيا مشروعا، فلا بد للباحث الأفريقي أن يقلب هـذه المفاهيم المعوجة ويسمي الأشياء بأسمائها.

            وأخيرا، فإن مما تجب ملاحظته هـو أن الكثير من الدراسات الغربية، وفي مقدمتها الدراسات الأمريكية، أضحت شديدة الانشغال بظاهرة الإسلام، وصارت تبحث في تجلياتها المختلفة



            [21] في مختلف بقاع العالم الإسلامي، وليست أفريقيا المسلمة بمستثناة عن ذلك، بل أن ثمة «مزاج إمبريالي» نما في السنوات الأخيرة وعلى نحو جديد أخذت تترجمه بعض الكتابات في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تحت دعوى خطر المسار العنيف الذي أخذت تسلكه -بزعمهم- مجتمعات العالم الثالث في مرحلة «ما بعد الاستعمار» ومنها المجتمعات الأفريقية



            [22] وكثيرا ما يشار إلى الصومال كنموذج لها، ولم يكن الأمر في حقيقته إلا تبريرا لمشروع إعادة الاستعمار وإن بثوب جديد.

            إن الكتابات التي تترجم هـذا المنحى تتجاهل مشاعر الإحباط التي منيت بها الشعوب المستضعفة جراء معاناتها من الغرب وما اصطنعه من حكومات محلية، بعد رحيل قواه الاستعمارية، مما يدعونا - كمنهجية أخرى - أن نجد مبررا لحالة الاحتقان التي تعيشها تلك المجتمعات، حتى وإن كان التعبير عن [ ص: 121 ] تلك الحالة يجري بعيدا عن النظامية، وينطوي على منذرات لا تستقيم نتائجها المتوقعة مع رغبات الإمبرياليين وسدنة « العولمة » الجديدة. ولذلك لا بد أن نتعامل مع هـذه الظواهر بصفتها مخاضا يفرضه واقع الحال، ومن الحق لها أن تتبلور على النحو الذي ينسجم مع مطالب الشعوب وحقها في تقرير المصير.

            د - في مجال الدراسات الاقتصادية والتنموية عرفنا كيف أن الدراسات الاقتصادية والتنموية التي أجراها الباحث الغربي حول أفريقيا ، سواء في المرحلة الاستعمارية أو في المراحل اللاحقة، هـي في الأغلب مشبعة بالنزعة المركزية والرؤية الأحادية، وتنطوي على دوافع وأهداف احتوائية، سواء في منطوق مسلماتها، أو في صياغة مفاهيمها، أو تنظيراتها، أو تحليلاتها. وإذا كان لا بد للباحث المسلم أن يستحضر المنظور الإسلامي في التنمية، فلسفة وغايات، فلا بد له أيضا أن يعمل على تأسيس مشروع تنموي يتسق مع الواقع وشروطه، وهذا يعني بالضرورة رفض المنطلقات المادية في فهم الوجود والحياة والغايات، وبالتالي رفض الكثير من التصورات الليبرالية المقترحة لتنمية (الآخر) .

            فإذا كان التحديث



            [23] المقترح لأفريقيا يعني التغريب «westrnazation» وهو ما نجده في كتابات « دافيداينز » حول «سياسات التحديث» و « ايزنشتاوت » حول «التحديث: المقاومة والتغيير» و « سملسر » حول [ ص: 122 ] «تحديث العلاقات الاجتماعية»



            [24] والتي تتضمن جميعها الدعوة إلى تخلي الشعوب عن نظمها وهياكلها التقليدية واستعارة النظم الغربية



            [25] وما يرتبط بها من قيم وسياسات، فإن من المنطقي أن يرفض الباحث المسلم فصل عمليات التنمية المادية عن شروطها المعنوية والروحية والثقافية، ذلك أن العمل الاقتصادي لا يقاس على الدوام بمعيار المنفعة أو الإنتاج، كما أن التجارة تظل محكومة بالضوابط الشرعية والأخلاقية، فضلا عن الضرورات الاجتماعية. وقبل هـذا وذاك، فإن الحاجة لها ضوابطها وحدودها المقيدة بالإيمان الديني والنظرة الإسلامية للحياة.

            إن من المعروف أن المقترحات التنموية الغربية المقدمة للمجتمعات غير الغربية، تتضمن ترجيح قيم العلمانية ، والعقلانية، والليبرالية ، والنظام الرأسمالي، وما يرتبط به من وسائل وآليات، فيما الحقيقة هـي أن الواقع الموضوعي لأفريقيا المسلمة، وبحكم خصوصيته الدينية والاجتماعية، فضلا عن مرحلته التاريخية، هـو بحاجة إلى منهج آخر وقيم أخرى. فإذا كان المنظور التنموي الليبرالي والوسائل المرتبطة به تعبر عن تجربة خاصة خاضتها الدول والمجتمعات الغربية فلا يعني ذلك صلاحية ذلك المنظور للواقع الأفريقي ودوله الناشئة، ثم لا ننسى أن التراكم الذي توفر للغرب عبر نهبه الاستعماري لم يتوافر للأ فارقة، وحركة التصنيع هـي الأخرى ارتبطت بالسيطرة والاستحواذ على المواد الأولية والطاقة، الأمر الذي أدى إلى ظاهرة [ ص: 123 ] التبادل غير المتكافئ، فضلا عن أن المعادلة الاجتماعية التي تحقق في ظلها النمو الأوربي هـي ليست المعادلة نفسها لدى المجتمع الأفريقي، وبالتالي فالحل التنموي يحتاج في إطاره الأفريقي المسلم إلى نظرية مستقلة، تنطلق من اعتبار العمل هـو الاستثمار الحقيقي، وأن الاهتمام بالزراعة هـو المنطلق الأساس، دون إغفال التكنولوجيا لتطوير تكنولوجيا محلية، وتخصيص الموارد بما يخدم الاحتياجات الشعبية، فضلا عن ضرورة إحداث التوازن بين جميع قطاعات الاقتصاد، والتخلص من الاقتصاد الأحادي، الذي يعتمد على إنتاج سلعة أو سلعتين، ناهيك عن أهمية اعتماد المشاركة الشعبية في مشروع التنمية.

            وفي ظل أطروحة « العولمة » الراهنة، التي تتجلى في بعض مقترحات البنك الدولي، وصندوق النقد، ومنظمة التجارة العالمية، التي تطالب الدول الأفريقية ب «التكيف الهيكلي» وإزالة القيود أمام البضائع الأجنبية، وتحفيز نوازع الاستهلاك، سيظل منهج ترسيخ التبعية هـو ما يعبر عن الفكر الغربي المقترح لنمو الشعوب الأفريقية. ومن هـنا فإن المنهج التنموي البديل إذ يرفض ذلك لا بد أن يعمل على طرح صيغ جديدة تعبر عن الواقع المحلي واحتياجاته الحقيقية، مع البحث عن الآليات الفعالة التي من شأنها تحريك القدرات الذاتية التي تخدم البديل.

            وبإمكان الباحث الأفريقي المسلم أن يصوغ نظرياته، ويحدد اختياراته واتجاهاته في حقل الاقتصاد والتنمية، ضمن جدلية أطرافها «الحقائق الاقتصادية العلمية المطلقة» و «الحقائق الاقتصادية العلمية النسبية» فضلا عن اعتماد «المسلمات والنظرية الاقتصادية الإسلامية». حتى المسالك التحليلية [ ص: 124 ] يمكن إخضاعها لمجمل هـذه الاعتبارات بما يعيد النظر في الكثير من التحليلات الأجنبية، التي تبتعد عن الحقيقة على نحو ما وجدناه - مثلا - في الربط السلبي بين التقاليد الوطنية في أفريقيا والمفهوم الحديث للوقت عند « هـير سكوفيتز »، الذي زعم بأن تلك التقاليد خالية من المفهوم المذكور، فيما لا يسع المحلل المسلم القبول بذلك حينما يتعلق الأمر بالشخصية السودانية، التي استشهد بها هـذا الباحث، الذي قد لا يدرك كيف أن السوداني يتناول فطوره في لحظة معينة بعد كل صوم، ويؤدي شعائر صلاته في مواقيت محددة، فكيف سيكون سلوكه بعيدا عن تقدير الوقت؟



            [26]

            هـ - في مجال علم النفس ابتداء يمكن القول: بأن الكثير من النظريات والمفاهيم، التي صاغها علماء النفس الغربيون، وهي تقدم نفسها بصفتها نظريات ومفاهيم علمية مطلقة، هـي في حقيقة الأمر لا تغدو أن تكون مجرد تعبير عن واقع نفسي اجتماعي، أو عن حالات نفسية خاصة بالمجتمع الغربي، أو ببعض فئاته، أو أفراده، ناهيك عما تستبطنه من افتراضات فلسفية أو تفسيرية ذات منحى مادي، ومن غير العلمي - حتى مع افتراض صحتها بالنسبة لسياقها الاجتماعي- تعميمها أو إسقاطها على الآخرين ممن ينتمون إلى سياقات اجتماعية أو حضارية أخرى



            [27] . [ ص: 125 ]

            وبخصوص المفاهيم والنظريات والتحليلات، التي تناولت الإنسان غير الغربي، فكثيرا ما تكشف عن تميز عنصري، ولا تمثل إلا أفكارا تعتمد فروضا لا أساس لها إلا في الذهن الغربي المركزي، المتمحور حول ذاته، بل كثيرا ما تستهدف خدمة المشروع التطبيقي للاستعمار، فمثلا مقولة: «المجتمع البدائي»، والتحدث عن سيكولوجية الأفريقي المتخلف، المؤسسة -في زعمهم- على «تكوين البنية الدماغية» لم تكن غير تضليل مبعثه النظرة العنصرية، التي ترى التمايز قائما في طبيعة الأقوام والجماعات المختلفة، فيما هـو في مدركنا أن الله تعالى خلق الناس من طينة واحدة ( والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب )



            [28] بل ومن طبيعة عقلية لا تمايز فيها لعرق على آخر، فالتقدم الغربي ليس ثمرة أية صفات وراثية، أو سمات خاصة مركوزة في الجنس الأبيض، ولو صح هـذا لكان الغرب صانع التقدم في كل العصور



            [29] .

            كما أن نظرية العلاقة بين اللون والذكاء، التي يتحدث بها بعض النفسيين لم تكن إلا أكذوبة صنعها ذلكم الاستعلاء، بدليل أن الخالق جعل التكريم شاملا لكل بني الإنسان ( ولقد كرمنا بني آدم... ) (الإسراء:70) ، ولم يكن للون أية ميزة تفاضلية إذ ( لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى )



            [30] . [ ص: 126 ]

            وقد عبر « ابن خلكان » عن هـذا المعنى بقوله: «البشرة السوداء لا تقلل من شرف النفس الطاهرة، ولا تنقص من علم العالم، ولا من سمو الفكر»



            [31] . وهذه حقيقة يمكن تبينها إذا ما تمت دراسة شخصية الإنسان الأسود أو الملون بشكل غير منحاز.

            نعم، أن الواقع الاجتماعي الخاص قد يولد بعض الاستجابات، أو ينشىء بعض الميول والدوافع، وبالتالي بعض السمات التي تتصف بها جماعة دون أخرى، فإذا ما جاء ذلك سلبيا فبفعل المؤثرات الخارجية، لا بصفة أنه طبيعة داخلية، ويصدق هـذا حتى مع الحالات أو السمات التي تبدو وكأنها حقيقة داخلية. ففي ظل واقع يسيطر عليه القهر والاسترقاق تتشكل سيكولوجية الإنسان المقهور أو المستعبد



            [32] ، وفي الحالة التي تزدهر فيها الحرية وإعلاء الكرامة الإنسانية وقواعد الاحترام، تبرز ولا شك سيكولوجية الإحساس بهذه القيم أو القواعد. إذن فالواقع، بما ينطوي عليه من أوضاع واتجاهات وتفاعلات، يفسر لنا تلك الأنماط المتباينة وهاتيك السمات المختلفة لكل جماعة أو فرد.

            لقد كتب « فرانتزفانون » كتابا أسماه: «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» كشف من خلاله عن ردة الفعل النفسية التي كان يعيشها قسم من السود وهم يواجهون الظاهرة العنصرية، التي كانت تدفع بالكثير - كما هـو الحال [ ص: 127 ] عند سود أمريكا - إلى حالات من النفي الذاتي، يتجلى بعضها في صحافتهم التي تزدحم بالإعلانات التي تروج لمركبات ووصفات لتبيض الجلد



            [33] ، أو في البحث عن الأصول الأفريقية على نحو ما عبر عنه « أليكس هـيلي » في قصته «الجذور The Roots» أو حتى في فكرة «الإسلام الأسود» التي حولت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى رجل أفريقي وذو ملامح أفريقية.

            إن ردة الفعل إذا ما تمثلت بنفي الذات فلأن الحضارة التي مورس التمييز من خلالها هـي التي تدفع باتجاه تلك الآليات الدفاعية، فيما لا يجد الأسود نفسه إلا بصفته عضوا كامل العضوية في ظل حضارة ترفض العنصرية كالحضارة الإسلامية أو في إطار مجتمع لا تعطى فيه للون أية مزية، بل وفي ظل المفهوم الإسلامي للقيادة تتوجب طاعة القائد ولو كان ( عبدا حبشيا )



            [34] - كما ورد في الحديث الشريف.

            والخلاصة، إن الوعي بالتقسيم الثلاثي للمعرفة، الذي تعرضنا له في السابق (مسلمات وثوابت؛ حقائق مطلقة وحقائق نسبية؛ غايات) واعتماده قاعدة للبحث والتنظير وصياغة المفاهيم وتوجيه التحليل، إنما يشكل الأساس لبناء علم نفس بديل، يمكن أن يساعد على معرفة الإنسان المسلم في أفريقيا، وتشخيص حالاته الفردية والاجتماعية، بعيدا عن أي تحليل متعسف، كما يمكن من خلاله تحويل المفاهيم والنظريات إلى أدوات للفهم والتنبؤ، وبالتالي جعلها وسائل لخدمة الحياة النفسية والاجتماعية في الإطار الأفريقي المذكور. [ ص: 128 ]

            و- في مجال الإعلام والدراسات الإعلامية صورة الأفريقي التي شوهها الإعلام الغربي تحتاج إلى تصحيح، ولا بد أن يوضع هـذا الأمر بصفته هـدفا أساسا للإعلام الأفريقي ودراساته البديلة. وهذا يتطلب بداية القيام بدراسات ناقدة، تعمل على كشف أوجه الزيف والتشويه، وتعرية الخلل المنهجي، الذي انطوت عليه الدراسات الغربية، وصولا إلى تقديم الصورة الصحيحة.

            فإذا بدأنا بالأداء، فلا بد أن نؤكد على ضرورة إنشاء قنوات إعلامية تتصف بالاستقلال، وتنبع من الواقع، وتعبر عنه، سواء على مستوى الصحافة، أو دور النشر، أو الإذاعات المسموعة أو المرئية، أو السينما، أو غيرها، إذ أنه عن طريق هـذه القنوات والوسائل يمكن تقديم صورة أخرى غير التي روج لها الإعلام الأجنبي.

            فلو تفحصنا الرواية الاستشراقية، التي تقدم الشخصية الأفريقية، سنجدها تقدم شخصية ناقصة أو محاطة بأطر من الغرائبية، الأمر الذي يدعو إلى إنتاج رواية بديلة تدحض ذلك التقديم المشين، ولعلنا نجد شيئا من هـذا الإنتاج في رواية «الأشياء تتداعى» ( 1958م) للروائي النيجيري « تشينوا أتشيبي » الذي أقام من خلال روايته هـذه مقارنة واعية بين الآيديولوجيتين، الأفريقية والأوربية، أفرغت العلو العنصري من مضمونه، كما قدم من خلالها مقابلة بين مؤسسة العدل الأفريقية ذات الصفة الدينية، ومؤسسة العدل الأفريقية الاستعمارية العلمانية، التي درجت على فرض عقوبات جماعية على المستعمرين. بالإضافة إلى ذلك، منح النص - على الرغم من كتابته بلغة [ ص: 129 ] المستعمر - مذاقه الأفريقي، خاصة حين شربه بالكثير من الكلمات والمصطلحات المحلية، وعمقه بالعديد من الأمثال الشعبية المعبرة



            [35] .

            وإذا كان الإعلام الغربي، عبر السينما، قد نسج خيوطا من الأوهام حول الشخصية الأفريقية، وكرس تشويهها بالصور الفجة، فبإمكان السينما الأفريقية المستقلة أن تمزق تلك الخيوط، وتضيء معالم الحقيقة، بأن تعكس أوجه الواقع الجديرة بالتقديم، كالقضايا والموضوعات، التي تجسد انشغالات المجتمع الأفريقي والقصص التي تسجل سطور كفاحه، والدور الذي اضطلع به الإسلام في تكوينه الثقافي وصياغة تجاربه الحضارية المتميزة.

            لنأخذ حالة الدهشة التي كان يبديها التاجر الأوربي وهو يتجول في المدن الأفريقية، في مرحلة ما قبل الغزو، ويرى المدن العامرة بالتنظيمات الإدارية المتطورة، والحرف المتنوعة، والحقول المزدهرة، والشوارع النظيفة، وما إلى ذلك مما كان يتمتع به الشرق الأفريقي. ألا تستحق تلك المناظر، بما تنطق به من حقائق حضارية ومظاهر راقية، أن تسجل إعلاميا، وأن يعاد إنتاجها؟

            كما أن بمقدور الصحافة أن تعبر عن قضايا القارة ومطالبها الحقيقية، وأن تنوه بإمكانياتها وآفاقها المستقبلية، التي يمكن بتوافر شروط التغيير، أن تكون واعدة، فضلا عن الاهتمام بقيم الحرية والاستقلال والوحدة، بصفتها مبادىء مبتغاة وجديرة بتحريك أي مشروع نهضوي طموح.

            أما على الصعيد الأكاديمي، فلا بد من التخلص من هـيمنة المنهجية الغربية، والمبادرة إلى القيام بدراسات إعلامية ناقدة، تعري الخلل المنهجي، [ ص: 130 ] الذي كانت تنطوي عليه الدراسات الغربية، وتكشف عن أوجه الزيف والتشويه الذي تحتويه، مع ضرورة تقديم صور موضوعية عن الواقع. ولا شك أن هـذا الأمر لا يمكن تحقيقه دون التخلص من آثار الاستعمار الإعلامي، وفك الارتباط بالمؤسسات الإعلامية الأجنبية، وتبني رؤى واهتمامات بحثية أخرى.

            وبعبارة أخرى، لا بد من العمل على بناء منهج معرفي في الحقل الإعلامي، يعبر عن الحقائق الموضوعية للقارة، ويعكس هـمومها ومطالبها الحقيقية. وهذا ما نبه إليه عدد من الباحثين خلال مؤتمر «الإعلام وقضايا الريف في عصر المعلومات» الذي نظمه الفرع المصري للمجلس الأفريقي لتعليم الإعلام (Acce) في القاهرة في العام 2000م، حيث دعا بعضهم إلى ضرورة خلع عباءة التبعية الإعلامية للغرب وتكوين رافد أفريقي للمدرسة النقدية، في مجال الدراسات الإعلامية، والتخلص من هـيمنة المدرسة الأمبيريقية الأمريكية، التي تركز على الدراسات الإحصائية الشكلية، بل حتى المدارس النقدية الغربية التي هـي على الرغم من تعاطفها مع أفريقيا تنطلق من مقدمات غربية، لا تنسجم تماما مع الواقع الموضوعي للقارة. وفي هـذا الإطار جاءت ورقة الدكتور «سيل بلاك» حول «تطوير مناهج بحوث الأعلام» التي أكدت ضرورة صياغة مفاهيم جديدة عن «الحرية» و «الشرعية» بعيدا عن المفاهيم الأمريكية والأوربية، مع تكوين فلسفة تكاملية يتم من خلالها التنسيق بين البحث والأداء الإعلامي. كما أشار الدكتور «بولي ماكلين» - من نامبيا - إلى أهمية الاستقلالية في تناول الموضوعات الإعلامية. وفي بحث آخر حول «تعليم الصحافة في أفريقيا » نبه الدكتور «يوساه إيبو» إلى [ ص: 131 ] الصورة السلبية التي يتداولها الأفارقة عن أنفسهم، والتي تفوق في سلبيتها أحيانا الصورة التي يتداولها الغربيون عنهم.

            لقد اتفق المشاركون في المؤتمر المذكور على ضرورة تطوير الدراسات الأكاديمية، التي ما زالت تعتمد على نظريات الإعلام التقليدية، التي تقدم نماذج جاهزة لتحليل الظواهر، تعتمد المنظور التجزيئي والأرقام الإحصائية بما يفقد طالب الإعلام قدرة المعالجة الموضوعية الشاملة، ويسلبه الحس الناقد



            [36] ويجعله بالتالي مرتبطا بالسياق الأجنبي، الذي تعبر عنه تلك النماذج، أكثر من ارتباطه بالواقع الذي ينتمي إليه.

            من هـنا، لا بد أن ينطلق البديل المعرفي في هـذا الحقل، سواء في مسلماته أو مقولاته، أو صياغة مفاهيمه، أو نظرياته، من إدراك الواقع الموضوعي، والوعي بمشكلاته الحقيقية، ومعطياته العلمية والنسبية، فضلا عما يقتضيه مشروع النهضة والتغيير في مجتمع أفريقي مسلم من منطلقات فكرية، واهتمامات واتجاهات تعكس القاسم المشترك بين دعاة التغيير الإسلامي من جهة، وتؤكد على حاجات وخصوصيات الواقع الأفريقي المسلم من جهة أخرى.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية