الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            رابعا: في الدراسات الاقتصادية والتنموية

            لا تخرج الرؤية الاقتصادية والتنموية التي يقترحها الغرب (للآخر) عن بقية رؤاه الاجتماعية المشبعة بأحادية المنظور، ونزعة التمركز، والاستهدافات الاحتوائية. ففكره التنموي بمختلف نظرياته لا ينطلق من واقع البلدان، وطبيعة شعوبها، وحقيقة ظروفها واحتياجاتها ومعادلاتها الاجتماعية، بل يجعل من [ ص: 55 ] خبرته الخاصة منبعا ومحكا لمقترحاته، لذا لا غرابة أن تركز التوصيات الاقتصادية التي يضعها الباحثون الغربيون لأفريقيا على ضرورة إزالة البنى الاقتصادية التقليدية، والأخذ بنمط التنمية الغربي، واعتبار مبدأ تقسيم العمل الدولي إطارا للمشروع التنموي، بل اعتبار أن ما تملكه أفريقيا من مواد أولية وأسواق يؤهلها للتناغم مع متطلبات النظام الرأسمالي، هـذا النظام الذي يبرر أولئك الباحثون فرضه على البلدان الأفريقية بزعم ما ينطوي عليه من رسالة حضارية من شأنها انتشال تلك البلدان من حالة العجز التي تنوء بها، نتيجة كسل شعوبها وعدم قدرتها على استغلال ثرواتها الطبيعية.

            والحقيقة أن هـذا نظر تلمع من خلاله العرقية «إذ يكفي أن تتميز عرقيا حتى تصبح السيطرة تفوقا ضروريا وطبيعيا لا يمس، كما لو أنه مدون في طبيعة الأشياء. وليس ثمة مدعاة للدهشة فيما لو رأينا التقسيم العالمي للعمل والمنافسة بين الدول يترجمان بحواجز بيولوجية، حيث العرق الأبيض ينصب نفسه وصيا على مصائر الشعوب، وذلك عن طريق نزع الملكيات المحلية المغزوة ودمجها في دائرة السوق، لتوسيع الإنتاج الرأسمالي العام، ثم إلحاق أي معيار اجتماعي بنظام الأجر، وذلك باستغلال واسع وكبير لليد العاملة المستعمرة، بحيث تغدو المجتمعات الملونة مجبرة على بيع قوة عملها بأسعار رخيصة»



            [1] . ولعل هـذا ما يفسر لنا اهتمام كثير من الدراسات بتحليل الموارد الطبيعية والبشرية، كما ونوعا، وتقدير إمكانات استغلالها، بالإضافة إلى دراسة مسائل التوزيع السكاني، فضلا عن معرفة مدى تأثير العقائد [ ص: 56 ] والعادات والتقاليد على العمل والإنتاج، ناهيك عن دراسة حالة الأسواق والعوامل والظروف التي تؤثر على مدى قدرتها الاستيعابية



            [2] .

            لذلك عمل الاستعمار على محاربة الاقتصادات والمنتجات المحلية



            [3] وكان من إمارات تلك الحرب تحطيمه الهياكل الاقتصادية التقليدية، وما أحدثه ذلك من تشوهات، واعتباره المستعمرات مزارع لإمداد مراكزه بالمواد الغذائية، مع جعله الزراعة متركزة على المحاصيل النقدية على حساب المحاصيل الغذائية التي تهم عامة الناس، فضلا عن إدخال مبدأ الاقتصاد ذي المحصول الواحد أو المحصولين في كل دولة، فأجبرت غانا - مثلا- على زراعة الكاكاو، وحولت ليبيريا إلى مزرعة تابعة إلى شركة الإطارات والمطاط، وتم الشيء نفسه مع نيجيريا وتنزانيا ومصر والسودان والجزائر ، عن طريق استخدام القهر أحيانا وإغراق السوق بالسلع الغذائية الرخيصة أحيانا أخرى



            [4] .

            كما أنه من جهة أخرى استبعدت العملات المحلية ووسائل المقايضة المتعارف عليها بين السكان المحليين، وأحل بدلا منها الليرات والنقد الأجنبي، وحتى الودع الذي كانت تنتجه الشركات الأجنبية، ناهيك عن تغيير أنماط الغذاء وإشاعة الروح الاستهلاكية. [ ص: 57 ]

            لقد رافقت طروحات المفكرين والباحثين كل أفعال التشويه هـذه، وكأن الأمر كان يتم لصالح الشعوب الأفريقية، وحتى حين تحررت البلدان الأفريقية من السيطرة المباشرة ظل منظرو الغرب يواصلون طرح تصوراتهم التنموية تحت مظلة النموذج الغربي ومحدداته، وهذا ما نلاحظه من خلال نظريات علم الاجتماع الأمريكي الخاصة بالتحديث والتنمية. فـ « دانيال لونر » - مثلا - يقرر بأن المجتمعات «الشرق أوسطية» لا يمكن لها أن تحقق التنمية ما لم تأخذ بالنموذج الغربي بصفته الخيار الذي لا بد منه لإحداث التغيير، فيما يقول « روستو » بأن نجاح التنمية في مثل هـذه المجتمعات مشروط بتصنيعها على النحو الذي سارت عليه المجتمعات الغربية، إلى غير ذلك من نظريات مشابهة



            [5] لاقت هـوى عند بعض بلدان العالم، ومنها البلدان الأفريقية، التي ما أن تبنت تلك الأفكار وشرعت في استنساخها حتى وجدت نفسها بعد فترة في حالة من التشوه البنيوي والتخبط الاقتصادي، وبالتالي الفشل في بلوغ أية تنمية حقيقية، نظرا لاصطدام ما استجلب من صيغ مع واقع الحياة المحلية ومرحلة التطور التي يعيشها المجتمع، فضلا عن عدم اتساق ما تحمله تلك التجارب المنقولة من مضامين مع «المعادلة الاجتماعية» التي تحكم جوهر الشخصية العامة في هـاتيك البلدان، وهذا ما أكده « آدم كوجو » في كتابه «مستقبل أفريقيا » حين أشار إلى الآثار السلبية التي أحدثتها الشركات الفرنسية، التي حاولت قيادة بعض الجماعات وسط أفريقيا نحو الأسلوب الرأسمالي وفشلت - كما في الجابون – في ذلك، [ ص: 58 ] لأن النمط الرأسمالي يحتاج بطبيعته إلى عمليات اجتماعية يصعب وجودها في مجتمعات وسط أفريقيا . فالفردية مثلا، لا تتسق مع مجتمعات تسكنها الروح الجماعية، وإذا كان النظام الرأسمالي يحتاج إلى طبقة من المبادرين الجشعين فالحياة الاقتصادية لدى الأفارقة تقوم على النظام العائلي، ناهيك عن أن النمط الرأسمالي يحتاج إلى عدد من الناس تقوم حياتهم الاقتصادية على العمل النقدي ووجود سوق قوية وقدرة عالية على الشراء، وهو ما لا يتوفر في إطار تلك المجتمعات



            [6] .

            وعلى هـذا الأساس كتب عالم الاجتماع الفرنسي « ريمون بودون » تحليله النقدي لنظريات التغيير والتنمية المتأثرة بمذهب «الوضعية» و «البنائية» و «الوظيفية» و «الماركسية» مؤكدا إغفالها ذلكم التفاوت بين مجتمعات الغرب والمجتمعات الفقيرة



            [7] .

            وإجمالا يمكن القول: بأن أبحاث العلماء والباحثين الغربيين المتعلقة بإشكاليات التخلف والتنمية والتغيير هـي في جوهرها أبحاث استيعابية، تستهدف تكييف اقتصاديات البلدان النامية بما يتسق مع احتياجات المركز ومقتضياته، وهي مهما حاولت إضفاء الصبغة العلمية على نفسها فإنها تعمل باتجاه تعميق الاستغلال والسيطرة وتثبيت التبعية، ولعل نظريات «الانتشار» و «التثقيف» التي تعتبر انتقال المعرفة والمهارات والتنظيمات والقيم والتكنولوجيا ورأس المال من الدول الغربية إلى الدول المتخلفة هـو [ ص: 59 ] السبيل نحو التنمية والتغيير



            [8] ، إنما تستهدف ضمنا إعادة صياغة الحياة في تلك المجتمعات وفقا للتوصية الثقافية والاقتصادية الغربية وبما ينسجم مع أغراضها النفعية، ولم تكن مقترحاتها في التراكم الرأسمالي والتصنيع ونقل التكنولوجيا والتحديث ونحوها إلا أدوات لربط تلك البلدان اقتصاديا ونقديا بدول المركز، وبالتالي ترسيخ حالة التبعية.

            ولا ننسى أن نشير إلى أن التحيز الذي تحفل به هـاتيك الدراسات كان يمتد إلى الكثير من التفاصيل، كما في الرأي الذي يسوقه « فيرسكوفتر » مثلا، والذي مفاده بأن ثمة انفصاما بين التقاليد الأفريقية والمفهوم الحديث للوقت، مشيرا إلى الشخصية السودانية كمثل على ذلك، أن الديانة الإسلامية التي يؤمن بها السوداني تحفل بالوقت قيمة وسلوكا، وأنه لا يمكن تجاوز أثرها في نفوس معتنقيها، مما لا يجد بالتالي القول بالانفصال بين التقاليد والوقت مسوغه؟

            إن الأحادية المعرفية التي تنطوي عليها التحليلات الغربية تتجلى أيضا في عزو أزمة التنمية في أفريقيا إلى الإشكالية السكانية، التي تفسر كسبب بطريقة «مالتوسية» دون استحضار النهب والتشويه البنيوي وتحويل البلدان الأفريقية إلى مجرد مزارع وأسواق ربطت أنشطتها باحتياجات النمو الخاص للدول المستعمرة.

            وإذا كانت ثمة دراسات غربية أخرى تبدو موضوعية في تناولها لإشكاليات التنمية الأفريقية، إلا أنه يجب التنبيه إلى أن الكثير منها يفتقر إلى الاستيعاب العميق لطبيعة المعادلة الاجتماعية الأفريقية، وقد لا يكون بعضها [ ص: 60 ] إلا مجرد ردة فعل رأسمالية إزاء التغيرات التي حدثت خلال النصف الأول من عقد السبعينيات، وبالتالي فهي لا تعدو غير محاولات للالتفاف على التوجهات الاقتصادية الأخرى المستقلة أو ذات الطابع الاشتراكي



            [9] الذي أخذت تراود بعض بلدان القارة الأفريقية.

            وفي كل الأحوال، وفي ظل طروحات العولمة وزحفها الراهن، لم يتغير المنهج المعرفي الغربي في رؤيته ومقترحاته المخصصة للإنسان (الآخر) ، بل لعله في ظل هـذا المتغير قد اكتسب بعدا قهريا، حوصرت في غضونه فرص البحث عن بديل آخر، بخاصة في ظل دول لم تتخلص بعد من عوامل الضعف والارتهان للقوى الخارجية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية