الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ثانيا: في التاريخ

            صياغة رؤى التاريخ لدى معظم المفكرين والمؤرخين الغربيين تنطوي على نزعة مركزية واضحة. فمنذ اليونان والرومان وحتى الآن، لا ينظر إلى تاريخ الآخرين - ومنهم الأفارقة - إلا من وجهة نظر التاريخ الأوربي، وفي ضوء تجاربه الخاصة، وعلى نحو تتهمش خلاله تواريخ الآخرين. وقد لا يلتفت إلى أي تاريخ آخر إلا بقدر ما يحمله من أثر مباشر على مصير الإنسان الغربي، لهذا لا يعدو تاريخ العالم إلا تاريخا موسعا للغرب في أعين الغربيين، كما يقول محمد أسد



            [1] .

            ومن هـنا، تتعسف المنهجية الغربية حين تجعل التاريخ الأوربي وما ارتبط بمراحله من معايير أنموذجا قياسيا لتاريخ الآخرين، حتى ليمسي قديما ووسيطا وحديثا على غرار التاريخ الأوربي، وهو تقسيم يقدم تفسيرا شموليا تندرج بموجبه آسيا وأفريقيا ضمن الرؤية الغربية للتاريخ.

            واستطرادا، يجعل الباحث الغربي من مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة أداة [ ص: 45 ] لتفسير التاريخ (الآخر) ، بما تنطوي عليه تلك المفاهيم والمصطلحات من دلالات فكرية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وبحيث لا تعبر إلا عن الفهم الغربي الخاص وليس عن الحقيقة النابعة من تاريخ (الآخر) ، وهذا في واقعه لا يمثل علما، إنه يتعامى عن ملامسة القيم والرموز، التي تحملها الثقافات الأخرى. كما بات من الشائع أن لا تفسر الحوادث الخارجة عن حدود الغرب الجيوسياسية إلا بمدى ارتباطها بشكل أو آخر بمرحلة من مراحل تاريخه الخطي



            [2] .. وتلك هـي المركزية ونزعة الازدراء، التي تغلف منهجية الكثير من الدراسات الغربية.

            وبخصوص التاريخ الأفريقي، أضيفت إلى ما تقدم خلتان، كلتاهما «لا تؤديان إلى الحقيقة التي يريدها العلم، إحداهما الغرض الاستعماري الذي يميل بصاحبه كل الميل، ويجعل من أفريقيا بلدا متخلفا يعيش في ظل التحجر والجمود، تمر به مواكب الحضارة منذ قرون وهو ذاهل عنها، ولا يفقه مما يرى شيئا. أما الثانية فإنها نتيجة طبيعية للأولى، إنها تزيين العمل الاستعماري وإحاطته بسحب من التضليل، ويراد من ذلك تسميم الأذهان بالفكرة القائلة: بأن أفريقيا لم تكن شيئا يذكر بدون أوربا »



            [3] .

            وفي سياق هـذه المنهجية، شوهت كثير من حقائق القارة، كتلك التي [ ص: 46 ] تتصل بطبيعة العلاقات التي تربط بين أجزائها، وحقيقة الدور الذي اضطلع به الإسلام في حياتها وحتى تاريخ اكتشافها وسواها. فوضع الفواصل بين شمال القارة ومحيطها أو ما يصطلح عليه ب « أفريقيا الشمالية » و « أفريقيا ما وراء الصحراء » أو السوداء، لا يني يمارسه الباحث الغربي كمدخل لتجاهل تاريخ العلاقات الوثيقة التي كانت وما زالت تربط بين الإقليمين، وكوسيلة لإنكار ظاهرة تواصلهما التي لم تنقطع، والتي تشهد بها الكثير من المراكز وطرق القوافل والمدن المتداخلة.

            ويتزايد الموقف المتعصب عند الاقتراب من الإسلام، وتحليل دوره، إذ نجد بعض الكتابات تفسر قبول الأفارقة بهذا الدين في إطار مفاهيم «التلاؤمAdaptability» و «المرونة Flexibility»، كخصيصتين للمجتمعات الإسلامية في أفريقيا المسلمة، كما تحدثوا عن مفهوم «القوة» الغالبة والعنف الظاهر في علاقات المجتمع الاسلامي مع غيره من المجتمعات في أفريقيا ، فضلا عن تطبيقهم مفهوم « المجتمعات المتجزئة segmentary societies»



            [4] وهي مفاهيم ترتب عليها الادعاء بأن المجتمعات الإسلامية في مناطق أفريقيا، خارج أرض الخلافة، إنما هـي مجتمعات راضية مستكينة، وتأخذ بالطاعة لأولي الأمر، وتقبل سياستهم على غير هـدى ولا بصيرة، بينما تتحول هـذه المجتمعات الوادعة نفسها إلى أخرى مقاتلة لغيرها وعاتية، حتى ليغدو الإسلام بحسب هـذا التفسير عامل استسلام على الصعيد الداخلي، وعامل عداء على الصعيد الخارجي، ولم تكن «القوة» في الحالتين إلا [ ص: 47 ] للمحافظة عليه في الداخل من جهة ولبسط سلطانه في الخارج من الجهة الأخرى.

            كما حمل بعض تلك المفاهيم التفسير القائل بأن: قبول الإسلام كان يتم في نطاق الطبقة المتنفذة، التي كانت تتعامل مع التجار المسلمين، وبالتالي كان الإسلام دين هـذه الطبقة، يقوى بقوتها ويضعف بضعفها، والناس في ظل الضعف قد يعودوا إلى وثنيتهم أو إلى خليط من الإسلام والوثنية، مما يعني أن الأفريقي لديه الاستعداد للقبول بحكم المستعمر والرضا بثقافته، ما دامت الطاعة هـي سمته العامة، وبالتالي لا فرق لديه بين مستعمر مسلم ومستعمر أوربي، عدا أن الأخير - كما يزعم البحث الغربي - جاء بمدنية جديدة وحضارة متقدمة



            [5] .. وهذا لعمري تحليل مغرق بالعنصرية وفيه كل الميل نحو ازدراء (الآخر) وعدم الاعتراف له بحضارة أو دول، ولا حتى بإرادة في الاختيار، إمعانا في طمس هـويته وخصوصيته من جهة، وتبريرا لـ «الرسالة التمدينية» المزعومة التي جاء بها الاستعمار من جهة أخرى.

            وبالمنهجية نفسها، يعالج البحث الغربي ظاهرة الرق، حين يعتبرها ظاهرة عربية إسلامية، لذلك كانت بعض الدراسات تعطي الانطباعات السلبية لطبيعة اتصال العرب بالأفارقة، وتبالغ في ترويج ما تسميه بـ «التجارة الصامتة Silent trade»



            [6] محاولة منها لتشويه الإسلام، وتوتير العلاقات الأفريقية العربية، والتغطية في الوقت نفسه على الدور الذي لعبته القوى [ ص: 48 ] الغربية في توسيع هـذه التجارة، والاستمرار في ممارستها زهاء أربعة قرون، تعرضت خلالها شعوب القارة لأبشع ألوان الاستغلال والاستعباد.

            أما اكتشاف القارة، فتؤرخ له الدراسات الغربية بمقدم الرحالة والمكتشفين الأوربيين، متغافلة أن أفريقيا كانت معروفة قبل هـذا التاريخ بكثير، حيث عرفها قدماء المصريين، وجابها- قبل وصول الأوربيين إليها بقرون - الرحالة العرب والمسلمون، وكتبوا عنها الكثير، ولم ينقطع التجار العرب عن الاتصال بها في أي مرحلة من المراحل.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية