الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أولا: المسلمات والثوابت

            هي مجموعة العقائد والقيم والمبادىء الثابتة، التي تشكل النظرة العامة للكون والإنسان والمجتمع والإله والحياة، وما ينبثق عن ذلك من أفكار وتصورات وغايات تتميز بأن تبنيها يتم بشكل مسبق وغير تجريبي ولا يتأثر بالضرورة بالخبرة البشرية، على الرغم من إمكانية التقاء الكثير من تلك المسلمات بالفطرة والعقل والخبرة، بل حتى إثبات بعضها بشكل تجريبي أحيانا



            [1] لذلك تمثل هـذه المسلمات المستوى المعرفي «لما قبل العلم» الذي يعبر عنه أحيانا، ب «ميتافيزيقيا العلم»



            [2] .

            ومن الطبيعي أن يعتمد الباحث المؤمن بالعقيدة الإسلامية على «المسلمات» والرؤى والتصورات، التي تنبثق عن هـذه العقيدة، وما تقضي به نصوصها القطعية الورود والدلالة من أحكام أو اتجاهات. كما من الطبيعي [ ص: 72 ] أن يتخذ العلماء المسلمون ما يؤمنون به من مسلمات ومقولات منطلقا وإطارا لمنهجهم المعرفي، على النحو الذي من شأنه أن ينعكس على أنشطتهم العلمية وما ينتظمها من مفاهيم ونظريات وما يتم في سياقها من تحليلات وتفسيرات، فضلا عن انعكاسها على الأهداف والغايات التي يحددونها لذلكم النشاط.

            لهذا فالمسلمات المستوحاة من نصوص الوحي وحقائقه المنزلة والتي قد يباشر صياغتها الفكر الإسلامي على نحو ما، إنما تمثل الأساس الفلسفي والقيمي والآيديولوجي للمعرفة، وهي تنطوي على قيمة عليا، نتيجة مصدرها الإلهي، سيما وأن الفكر الإنساني كثيرا ما يقصر عن إدراك الكثير من الحقائق الكلية المتعلقة بالكون والإنسان والحياة والمصير بشكل صحيح أو دقيق. لهذا يقول بعض العلماء: «إن الحقائق الممكن معرفتها لا أهمية لها، بينما الحقائق المهمة لا سبيل إلى معرفتها»



            [3] ، الأمر الذي يشير إلى أن العقل مهما بلغ من الإدراك، ومن قدرة استشراف الحقائق، يظل محدودا بالنسبة إلى ما في هـذا الوجود من كم هـائل من الحقائق المهمة. كما أن الخبرة البشرية مهما تراكمت معطياتها تظل قاصرة عن إدراك الكثير مما هـو مجهول أو قائم في عالم العيش، ناهيك عن أن العقل والخبرة قد يتوصلان إلى ظواهر الحقائق ويعجزان عن تفسير ما هـياتها، وبالتالي فالأحكام التي قد تبنى على تلك الظواهر قد لا تملك عصمة الإدراك ولا التوصيف الصحيح أو الدقيق، وبالتالي فالعلم مهما اجتهد أصحابه يظل يعالج ظواهر الأشياء، ويعجز عن إدراك كنه [ ص: 73 ] الكثير منها، مما يمكن معه القول: بأن ما اكتشفه العلم البشري، سواء على صعيد الإنسان أو الطبيعة، يظل اكتشافا ظاهريا، فيما تبقى الكثير من الأسرار الكامنة في جوهر الأشياء والظواهر عصية عن الفهم والتفسير. ومن هـنا تجيء قيمة «الوحي» فيما يوفره من معارف أو تفاسير أو إرشادات تبصر الإنسان وتدله على طريق الهدى، وترسم له معالم السبيل الصحيح.

            وفي إطار الوعي بالمسلمات المركزية، التي تعد أهم أسس المعرفة، وتشكل إطارها الذي لا بد منه، يمكن أن ننوه بأبرزها



            [4] مما يشكل بإجماله قاعدة المنهج المعرفي الإسلامي، مع الإشارة إلى ما يقابلها في النموذج المعرفي الغربي (انظر الجدول المرفق) .

            حيث تنبثق عن «المسلمات» الكلية «مسلمات» أخرى فرعية أو نوعية، يمكن للمشتغل في البحث العلمي أن يشتقها ويسترشد بها ويوزعها، لتغطي مختلف حقول الحياة الإنسانية والاجتماعية. وكلا المستويين من «المسلمات» تستمد صياغتها من النصوص الإسلامية، ويضطلع الفكر الإسلامي بدور أساس في صياغتها وطرحها على صعيد البحث العلمي.

            وإذا كان هـذا الجزء من المعرفة، الموحى بمضمونه، لا يشكل في حقيقته إلا نسبة محدودة قد لا توفر للباحث كثيرا من التفاصيل المعرفية، إلا أنه مع ذلك يشكل - كما يقول د. كليم صديقي - النواة التي يجب أن تدور حولها الجهود المعرفية البشرية من بحث وتأمل وتجريب



            [5] . [ ص: 74 ]

            مسلمات في المنهج المعرفي الإسلامي مسلمات في المنهج المعرفي الغربي * الله مركز الكون، والإنسان مستخلف:

            ( له مقاليد السماوات والأرض ... ) (الزمر:63) * الإنسان مركز الكون * الطبيعة مسخرة:

            ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ... ) (الجاثية:13) * الإنسان في صراع مع الطبيعة * وحدة الحقيقة ووحدة مصدرها وبالتالي تكامل العقل والوحي * الحقيقة الدنيوية منفصلة عن الحقيقة الدينية العلمانية * وحدة الإنسانية :

            ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ... ) (النساء:1) * مركزية الإنسان الأوربي * تعددية المصادر المعرفية * أحادية المصدر المعرفي *القيم مطلقة ونسبية * القيم نسبية * محدودية المعرفة البشرية:

            ( ... وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) (الإسراء:85) * إمكانية المعرفة الكاملة [ ص: 75 ]

            ثوابت النظرية

            الإسلام بصفته دين شامل قدم تصورا متكاملا للحياة بأوجهها المختلفة، وتعد الأصول والمبادىء التي تؤسس لهذا التصور هـي الثوابت التي تقوم عليها «النظرية الاجتماعية في الإسلام» [6] فيما تشكل الصياغات التفصيلية الاجتهادية المتغيرات، والباحث المسلم يتعامل مع الثوابت بصفتها مسلمات يستند إليها، سواء عند صياغته المفاهيم أو عند افتراضه عمليات الضبط أو إجراءات التحكم. وإذا كان الباحث الغربي هـو الآخر يستلهم ويستبطن نظريته الاجتماعية التي يؤمن بها، إلا أن ثمة فارقا أساسا بين عمله وعمل الباحث المسلم، نتبينه إذا ما عرفنا أن النظرية الاجتماعية التي ينطلق منها الباحث الأول تجد تجسيدها في إطار البناء الاجتماعي القائم، وضمن سياقاته الراهنة، بل إن البناء المذكور كثيرا ما يكون ملهم النظرية، حيث منه تشتق العديد من المسلمات والمفاهيم والنظريات وحتى المناهج والأدوات البحثية، فضلا عن الأهداف والغايات النفعية، على اعتبار أن انبثاق العلوم في الغرب هـو أصلا قد تم في ظل هـذا البناء، وبالتالي جاءت هـذه العلوم لتعبر عن حاجاته وإشكالياته وحتى أزماته، الأمر الذي طبعها بطابع النظامية التي تستهدف الضبط والتحكم، وهو ما يفسر لنا ارتباط هـذه العلوم بالسلطة، وهو ما يتضح بوجه خاص في علوم السياسة والاقتصاد السياسي والاجتماع [ ص: 76 ] وبعض الاتجاهات السيكولوجية



            [7] وتلك وضعية لم تتوفر للمنهج المعرفي الإسلامي، الذي يواجه في ظله الباحث المسلم صعوبة في إنتاج العلوم الإنسانية والاجتماعية، نظرا لغياب الواقع التطبيقي لجوانب عديدة من النظرية الاجتماعية الإسلامية، ونتيجة لما أصاب واقع المسلمين الراهن من خلط وتمزق وازدواجية وتشوه ولد ذلك الافتراق بين الواقع والنظرية.

            إذن، فغياب الترجمة التطبيقية للنظرية الاجتماعية الإسلامية في الواقع الإسلامي، أو غياب جوانب عديدة منها، قد حال دون بروز القوانين وتشكل الاطرادات التي يمكن أن تنتجها الترجمة المذكورة، وبالتالي المفاهيم والنظريات، التي تفسر تلك القوانين والاطرادات وتعبر عنها.

            ومن أجل أن يواجه البديل المعرفي الإسلامي هـذه الإشكالية بكفاءة، لا بد أن يتحرك في اتجاهات ثلاثة:

            الأول: اتجاه يعبر عن جوانب الواقع الذي طبقت في أطره النظرية الاجتماعية الإسلامية، وذلك من خلال اكتشاف قوانينه وسننه وحقائقه، مع صياغة المفاهيم ووضع النظريات، التي تشير إلى تلك القوانين والسنن والحقائق، وذلك على نحو موضوعي.

            الثاني: اتجاه يعمل في إطار الإسهام بإعادة الأبنية المفقودة، من خلال التنظير لها، والعمل معرفيا على إنزالها في أرض الواقع، انطلاقا من أصول وثوابت النظرية الاجتماعية الإسلامية، وعلى النحو الذي تراعى من خلاله شروط الواقع وطبيعة معادلته الاجتماعية. [ ص: 77 ]

            وإذا كان هـذا المستوى ينهض به في المقام الأول أهل الفكر والاجتهاد، كل حسب اختصاصه، فإن مهمة العالم الإنساني والاجتماعي التواصل مع ما ينتجه أهل الفكر والاجتهاد واستصحابه عند أية مقاربة للظواهر، مع تقويم مدى اقترابها أو ابتعادها عما تقتضيه النظرية الاجتماعية الإسلامية، مما يعني ذلك إكساب العلم مهمة مزدوجة، هـي البحث فيما هـو كائن من جهة، والبحث فيما ينبغي أن يكون من جهة أخرى. وإذا حدث أن كان الباحث الغربي يبحث عما ينبغي أن يكون، فإن الفارق بينه وبين الباحث الإسلامي هـو أن بحثه يتم في إطار نظام قائم يسعى للمحافظة عليه، بينما الباحث الإسلامي يمارس التغيير من أجل إقامة نظام غائب.

            الثالث: اتجاه استنباطي توقعي، يعمل على استخراج القوانين النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال تصور التطبيق الإسلامي واشتقاق سيناريو ما يمكن أن يتمخض عنه من ظواهر واطرادات وقوانين. فعلم الاقتصاد السياسي الإسلامي مثلا، لا يمكن التحدث عنه بصفته معطيات ملموسة ما لم يكن هـناك نظام اقتصادي إسلامي قائم بالفعل. ولكن ذلك لا يمنع من معالجة علم كهذا في إطار توقع المعطيات بعد افتراض التطبيق.

            وفي إطار علم السياسة، هـل يمكن التحدث عن معطيات جماعات الضغط - إذا ما افترضنا وجودها في الإطار السياسي الإسلامي- ما لم يكن ثمة تطبيق سياسي إسلامي ؟

            إن الإجابة عن ذلك تقتضي إدراك أن بروز مثل هـذه الجماعات محكوم بثلاث متغيرات هـي: طبيعة السلطة، وطبيعة التشريع، وطبيعة المجتمع. فإذا قلنا: بأن النظام الليبرالي، سواء من حيث طبيعة السلطة أو التشريع [ ص: 78 ] أو المجتمع، يسمح بظهور مثل هـذه الجماعات، فهل طبيعة هـذه العناصر الثلاثة في ظل النظام السياسي الإسلامي تسمح بظهورها؟

            لا نستطيع الإجابة بشكل حاسم إلا في ظل توفر التطبيق السياسي الإسلامي. ولكن يمكن وضع إجابة في ظل اشتقاق صيغ متوقعة يمكن أن يتمخض عنها المجتمع السياسي الإسلامي. ولعل إدراك اختلاف المكونات الثلاثة للمجتمع السياسي (السلطة والتشريع والمجتمع) في ظل الواقع الإسلامي عنه في ظل الواقع الغربي قد لا ينتج ظاهرة جماعات الضغط في الواقع الإسلامي، وإذا أنتجها فقد تكون في طبيعتها وآلياتها مختلفة عن الطبيعة والآليات التي توجد عليها وبها في إطار المجتمع الغربي الليبرالي.

            إذا كان التعامل مع «المسلمات» بمستوييها المذكورين: المسلمات العامة، وثوابت النظرية الاجتماعية الإسلامية يمثل «حقائق معيارية» مسبقة، وتعبر بحد ذاتها عن قيمة عليا، فإن بالإمكان إثبات مصداقيتها، وتلمس قيمتها، بشكل يتجاوز نطاقها الإخباري إلى نطاقات البحث العقلي والمقارنات الموضوعية. أي أن «المسلمات» إذا كانت تستمد علميتها من (الوحي) فإنه يمكن إثبات هـذه الحقيقة على الصعيد العيني عن طريق المقاربات العلمية العقلية والتحليلية، وحتى التجريبية، على النحو الذي يمكن خلاله إثبات حالة التلازم التكاملي





            [8] بين «المعيارية» و «الموضوعية» سواء كان التقويم الموضوعي لتلك الحقائق والمسلمات الغيبية يتم بناء على أحكام «الفطرة» أو «العقل» أو «الواقع» أو «المعطيات التجريبية». [ ص: 79 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية