إسلام ويب - عولمة الجريمة (رؤية إسلامية في الوقاية) - الفصل الأول المنهج الأخلاقي للشريعة في الوقاية من الجريمة - المبحث الثالث دور التربية الأخلاقية في بناء شخصية الفرد- الجزء رقم1

المبحث الثالث

دور التربية الأخلاقية في بناء شخصية الفرد

يؤكد الواقع الملموس أن التربية الأخلاقية الإسلامية نجحت في تكوين شخصيات مثالية تحلت بالفضائل الأخلاقية العليا، وفي التاريخ العربي الإسلامي نجد شواهد مشرقة يتجلى فيها هـذا الطراز من الرجال، كانوا كالملائكة في الطهر والعفاف، ومن هـذه الشخصيات القيادية المضيئة أولئك الأبطال الذين يشار إليهم بالبنان في كل زمان ومكان، إذ عرجوا على سلم الخلود رغم صغر سنهم، فهم وإن لم يكملوا العشرين، فقد كانوا شبابا في السن، رجالا في العزيمة، كهولا في النضج والتصرف، منهم سيدنا علي رضي الله عنه، وأسامة بن زيد رضي الله عنه وعقبة بن نافع ومحمد بن القاسم ، رضي الله عنهموأرضاهم، وغيرهم من الأبطال الشباب، ولا سيما في هـذه المرحلة من حياة الأمة، ليأخذ أبناؤها من وضوح شخصيتهم وتجلي أصالتهم مثالا وقدوة يتمثلون بها في حياتهم العملية، وبذلك تقترن المبادئ والقيم بالتطبيق العملي، وتلك هـي التربية العملية على المبادئ الأخلاقية من خلال تحقيق اهتماماتهم بالبطولات ووضع الأمثلة الحية من الشخصيات الأخلاقية كي تكون متجسدة أمامهم ليقتدوا بها في حياتهم ويتحلوا بصفاتها وينهجوا نهجها. [ ص: 60 ]

وإذا كان لنا أن نفخر فإن فخرنا ليس ذاتيا، وإنما نابع من الاعتزاز بقيم أمتنا وأصالتها، تلك الأمة التي أنجبت كبار المفكرين والمجتهدين والفلاسفة، أمثال الأئمة أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية ، رحمهم الله، والفلاسفة أمثال الكندي والغزالي وابن رشد وابن خلدون وعشرات غيرهم لا يتسع المجال للاستئناس بأسمائهم.. إن هـؤلاء الرجال تخطوا الزمن وبلغوا مبلغا لا يضاهيهم فيه أحد؛ لأن أنامل الإنقاذ عانقتهم بتوجيه قلوبهم وضمائرهم وسلوكهم، فغيروا سرائرهم فغير الله لهم ظواهرهم،، مصداقا لقوله تعالى: ( ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ) وهل المرء إلا بقلبه وعقله؟ إن وجه خيرا وجه كل طاقاته نحو الخير، وإن وجه شرا وجه كل طاقاته نحو الشر، وكل من بيده التوجيه يمكن أن يحقق أملنا المنشود، من المؤسسات التي تتحمل أمانة التوجيه والتعليم بما تمتلكه من وسائل التوجيه الحسي والفكري والتربوي والأخلاقي.

علما بأن الشخصيات المثالية ليست متجسدة في عالم الخيال، بل يمكن بيسر إيجادها؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذا يدل على أن الإنسان يتمتع بالاستعداد والقدرة على بناء شخصيته بناء مثاليا في كل زمان ومكان، ولهذا نجد في القرآن الكريم صورا لشخصيات مثالية اتسمت بالانضباط الأخلاقي العالي ذاتيا، من هـذه الشخصيات شخصية سيدنا [ ص: 61 ] يوسف عليه السلام الذي ضحى بكل المصالح المادية من أجل الفضيلة، وتغلب على دوافع الغريزة الجنسية في سبيل الحفاظ على شرفه وعفته، وجد أن الطرد من قصر الملك الذي كان يعيش فيه مرفها سعيدا والدخول في السجن رغم مرارته وقسوته يحقق له المتعة الروحية، وهذا بالنسبة إليه أفضل من البقاء في القصر مع ارتكاب الفاحشة مع امرأة الملك، فالعذاب والسجن في سبيل الشرف أحلى من السقوط في الرذيلة ^[1] .

وليس من نافلة القول: إجمال الدور الذي تؤديه التربية الأخلاقية في تحقيق مقومات الشخصية الإنسانية في جملة مبادئ، من أهمها:

1- فلسفة الأخلاق الإسلامية تنتظم قوانين العلاقات والمتعلقات كلها، من العلاقة القدسية مع الذات الإلهية، إلى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ثم علاقته بالأسرة والمجتمع، ثم علاقة المجتمع الإسلامي بالمجتمعات الأخرى، ثم علاقة الإنسان بالحيوان، ثم علاقة الإنسان بالأشياء ومنها الأموال، قال تعالى: ( ( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ) ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) ) (الإسراء:26-27) ^[2] ، بل تتجلى العلاقة بين [ ص: 62 ] الإنسان وبين الأرض أيضا، إذ الزراعة فرض كفائي ، ومع ذلك الناس يجبرون على زرع أراضيهم إذا تركوا هـذه الحرفة المباركة، وبناءا على انتقال الفرض الكافي إلى العيني فيما يعم ضرره إن عم تركه ^[3] .. وتتجلى العلاقة بين الإنسان وحركاته وسكناته، قال تعالى: ( ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ) (النجم:39)، وهذا يدل على أن السكون الدائم حرام؛ لأن الوقت يستهلك فيه استهلاكا عقيما، ومن حسن الخلق تنظيم الوقت واستثماره على أفضل وجه ممكن.

2- اختصت الشريعة الإسلامية بتوجيه الإنسان إلى الإيمان بالغيبيات، والمعروفة بالميتافيزيقا أو بالحياة الميتافيزيقية (ما وراء المحسوس) وهذا بالضرورة يجعله مع مشاهد الترغيب والترهيب فيزداد حبا وتعلقا بطاعة المبدع الأسمى الحبيب، وهذه المشاهد كأنها رياضة روحية تتغذى وترتوي روح المؤمن بها، مما يفضي إلى نقاء القلب، ذلك الذي إن صلح صلح الجسد كله، وإن فسد فسد الجسد كله، وما سوى الشريعة الإسلامية من مبادئ وفلسفات فهي غير قادرة البتة على تمرين الروح وتهذيبها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

3- اختصت الأخلاق في الشريعة الإسلامية بالثبات كما امتازت بسمات إلهية جعلتها تغير ولا تتغير، تدير المبادئ في فلكها ولا تدور في [ ص: 63 ] فلك أي مبدأ أني يكون ذلك.. إن نظرية «الغاية تبرر الوسيلة» التي نادى بها « ميكافيلي » محرمة في شريعة الله تعالى، ويتجلى ذلك في تحريم النفاق والرياء والإثراء بلا سبب والإثراء على حساب (الغير) وإيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.. ولا أثر للنظرية النسبية البتة في الشريعة الإسلامية؛ لأن المشرع هـو الله وحده: ( ( إن الحكم إلا لله ) ) (يوسف:40)، ( ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) ) (الأحزاب:36)، ( ( ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) ) (المائدة:49)، ( ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) ) (البقرة:120)، فالحرام حرام إلى يوم القيامة، والحلال حلال إلى يوم القيامة، لا تبديل لشرع الله، ولهذا قلنا ببطلان النظرية النسبية والميكافيلية بطلانا مطلقا، لأن الأخلاق مأمور بها لذاتها لا لغيرها، وما كان مطلوبا لذاته ثبت ثبوت الجبال الرواسي.

4- الشمول والتكامل: خاصية الشمول والتكامل امتداد لشمول الشريعة الإسلامية وتكاملها في كل ما يقتضيه العنصر المادي والعنصر الروحي، لهذا كان كل رافد من روافد هـذه الشريعة الغراء موسوم بالشمول والتكامل، والأخلاق من الروافد التي لا تنفصل عنها البتة، [ ص: 64 ] وحسبنا دليلا أن أحدا من الخصوم ومن المستشرقين لم يقل: لو أمرت الشريعة بكذا لكان كذا (!) لأن الشريعة الإسلامية صاغت خلق المسلم صياغة التكامل والسمو، ولا عجب في ذلك، لأن دقة الصنعة تدل على عظمة الصانع، وهل ثمة صانع غير المبدع الأسمى، صنع منار الخلق وأمر الإنسان باتباعها.

ومن مظاهر الشمول والتكامل أن الله سبحانه وتعالى شرع مبدأ المساواة بين الناس أجمعين، ولا مقياس ولا ميزان في الأفضل تكريما إلا مقياس التقوى.. والتقوى أساسها الخلق، وصفة الخلق كما أجملتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عندما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: ( كان خلقه القرآن ) ^[4] .

ولنعرج على مبدأ المساواة، إذ ثبت بنص القرآن الكريم أن الناس جميعا من حقيقة واحدة، أي من طين واحد، وهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أن الإسلام العظيم قد شرع مبدأ التآخي بين الناس، قال تعالى: ( ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ) (الحجرات:13). [ ص: 65 ]

ومن أعظم مظاهر الشمول والتكامل بعد المساواة، الأمر بالمعروف ، فالله سبحانه وتعالى قد أمر به في أقباس قرآنية بلغت مدى ثمان وثلاثين آية قرآنية، وكل كلمة معروف شرعت مبدأ أخلاقيا إنسانيا، ولو سخرت جميع الحضارات الإنسانية نفسها بنفسها ما أتت بمثل مثله البتة، مرجئين التفصيلات إلى المبحث الخاص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

5- اقتدار الأخلاق السليمة على توسعة مفاهيم التربية: تتجلى هـذه الخصيصة في مظاهر شتى، منها: أن الأخلاق الإسلامية تأمر باتباع السمو لذاته لا لغيره، وتبدو آثاره في الالتزام السري أكثر وأعمق من الالتزام الجهري، ولهذه العلة ذاتها تشكو المجتمعات المعاصرة من قلة الالتزام بأحكام القانون؛ لأن القوانين الوضعية خالية من القدسية التي تتسم بها الشريعة الإسلامية، ولهذا فقد حرمت الشريعة المراءاة، لكي يكون الالتزام ذاتيا، قال تعالى: ( ( فويل للمصلين ) ( الذين هـم عن صلاتهم ساهون ) ( الذين هـم يراءون ) ( ويمنعون الماعون ) ) (الماعون:4-7).

والخلق الإسلامي يأمر ذويه بالالتزام العملي في التربية أكثر من الالتزام النظري، وهذا يتجلى في قوله تعالى: ( ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) ) (البقرة:44). [ ص: 66 ]