الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        عولمة الجريمة (رؤية إسلامية في الوقاية)

        الأستاذ الدكتور / محمد شلال العاني

        المبحث الثالث

        الأسلوب العلمي المنهجي

        أملى التقدم العلمي والتقني الذي يشهده العالم اليوم في مختلف مجالاته وجود أجهزة ووسائل تتناسب مع تطور الحياة وتجددها، وقد ابتدأت كثير من الدول توظيف هـذه الأجهزة والوسائل في تحليل الظواهر الإجرامية وتفسيرها وصولا إلى تحديد العوامل المسببة لها، وتبرز أهمية هـذا الأسلوب في العملية الوقائية؛ لأن هـناك كثيرا من الظواهر يصعب تفسيرها والوصول إلى حقيقتها دون الاستعانة بهذه التقنيات، فالمشاعر البشرية المألوفة لدى الفرد وأثرها في السلوك وكذا الأفعال والتصرفات العادية للإنسان يمكن رصدها وتحليلها والوصول إلى حقيقتها بالحواس المجردة وبدون الاستعانة بأي جهاز أو وسيلة، إلا أن هـناك بعض الظواهر الإجرامية لا يمكن رصدها أو الإحاطة بها إلا باستخدام الآلات والوسائل التي تسهل للباحث الوصول إلى الحقيقة، كالاستمارات الإحصائية، وأجهزة التصوير، وأجهزة الرادار، والأجهزة الضوئية، وأجهزة قياس درجة السكر، وأجهزة الاتصال المختلفة، وبناء على هـذه الحقيقة بات من الضروري الاستعانة بهذه الأجهزة والمعدات الفنية لتحقيق أهداف السياسة الوقائية.

        وبهذا الصدد نود التأكيد أن العملية الوقائية عملية صعبة ومعقدة تحتاج إلى أجهزة ومعدات فنية وخبرة وقابلية تتوفر في مستخدم هـذه الأجهزة [ ص: 141 ] للوصول إلى الحقيقة ولتحقيق أهدافها كاملة، لأن الأجهزة الفنية مهما كانت متطورة فإنها لا توفر للمسئولين عن تنفيذ السياسة الوقائية اختيار أفضل الخطط لتحقيق الأهداف ما لم تتكامل المعطيات السليمة لهذه العملية، فالاستمارات الإحصائية مثلا لا يمكن استخدامها في تحقيق العملية الوقائية ما لم تتوفر فيها شروط أساسية تمكن المختص من توظفيها بهذا الاتجاه منها تبويب المعلومات المهمة في الاستمارات، وقدرة المختصين على توضيحها بشكل يتناسب مع ثقافة الفرد ووعيه ووعي المواطن، ومن ثم اعتماد الطريقة الأمثل في جمعها وتحليلها وتنسيقها واختيار الفرضيات بعد تصنيفها مع الأخذ بنظر الاعتبار معيار التوقع والاحتمال، لهذا لا نتأمل من أجهزة الكمبيوتر، مهما كانت متطورة، أن تحقق هـدف السياسة الوقائية ما لم يتوافر الكادر القادر على التعامل معها بأسلوب علمي متطور أيضا، أي تحقق الخبرة المطلوبة في مستخدمي هـذا الجهاز، لأن هـذه الشروط أمور خارجة عن قدرة الجهاز الإلكتروني.

        فتوعية الفرد بأهمية ودقة المعلومات التي تتضمنها الاستمارة الإحصائية، مهما كانت صفته في الجريمة، سواء أكان متهما أو مجنيا عليه أم شاهدا أم شاكيا، ورفع كفاءة القائمين على إملاء هـذه الاستمارات من رجال الشرطة ليكونوا بالمستوى المطلوب الذي يحقق الدقة العلمية المطلوبة من هـذا العمل، أمر مطلوب؛ لأنه بعد توفير هـذ المستلزمات كافة نأمل أن يتيح استعمال الكمبيوتر للمسئولين عن السياسة الوقائية اختيار الاستراتيجية العامة [ ص: 142 ] القادرة فعلا على توظيف القدرات والإمكانيات المتاحة لتحقيق العملية الوقائية، والاستراتيجية الخاصة بكل قطاع لتنفيذ جزء من السياسة الوقائية بشكل لا يتعارض مع الهدف النهائي مادامت تستخدم في إطارها الصحيح.

        وبما أن المنهج العلمي يعتمد المعطيات التي يوفرها البحث الجنائي؛ لذا يمكن إدراك دور الأجهزة والمعدات الفنية في تحليل هـذه المعطيات بعد تصنيفها وإبراز جوانبها الإيجابية والسلبية والنتائج المتوقعة عند تطبيقها، ودراسة تأثير العمل الوقائي في الظاهرة الجرمية، ارتفاعا وانخفاضا، من أجل تقييم هـذا العمل تقييما علميا منهجيا، وتعديل اتجاهه بالطريق الصحيح الذي يحقق له النجاح في أداء مهامه، أي يحسن الباحث عملية التنسيق بين الأجهزة والظاهرة الإجرامية التي يراد رصدها، أي الربط بين الوسيلة والظاهرة، ويتحقق ذلك مثلا بنجاح الباحث في نصب جهاز الرادار في المكان المناسب لقياس سرعة المركبات، لأن نصب هـذا الجهاز في غير محله لا يؤدي الغاية المرجوة منه في الوقاية من حوادث المرور، سواء بإشعار قادة المركبات بوجود مراقبة هـذا الجهاز، أو قدرته على رصد المخالفات، أو نجاح المخالفين في الإفلات من العقوبة.

        فالسياسة الوقائية مدينة للأبحاث العلمية التي وفرت للقائمين على تنفيذ هـذه السياسة المعدات والوسائل المتطورة، وهذا أملى على الباحثين في ميدان الوقاية من الجرائم أن يستفيدوا من معطيات البحث العلمي في دراسة وتحليل عوامل وأسباب هـذه الجرائم بعمق، من أجل تشخيصها وتحديد [ ص: 143 ] الإجراء والدواء المناسب لها وقاية وعلاجا وتصديا؛ لأن للظاهرة الجرمية - كما بينت - أبعادا اجتماعية وحضارية وقانونية واقتصادية ونفسية، مما ألزم المختصين باتباع المنهج العلمي في دراسة أسباب هـذه الظواهر بأساليب ومفاهيم علمية وفنية لتأمين حلها بما يحد من تأثيراتها.

        ومن هـذه الأساليب: الأسلوب الوقائي بشكل يؤمن معه التصدي لهذه الظاهرة الخطرة، والإحاطة بحجمها وحركتها، دون الاكتفاء بالوسائل التقليدية، التي فشلت في الحد من تفاقم الظاهرة الجرمية في مختلف الدول المتقدمة في العالم، وقد أدرك المسئولون عن السياسة الوقائية أهمية هـذا الأسلوب فحرصوا على اعتماد البحث العلمي أساسا عن وضع السياسة الوقائية.

        كما حثت الاستراتيجية الأمنية العربية على تشجيع الدراسات والبحث العلمي مؤكدة أنه «لم تعد الصيغ التقليدية والعقوبة قادرة على التصدي للظواهر الإجرامية التي تهدد المجتمع العربي، مما استوجب على الأجهزة الأمنية اعتماد صيغ البحث العلمي وتوظيف كل مناهجه وأساليبه لدراسة هـذه الظواهر بغية الوقوف على أسبابها، بهدف منعها أو الحد من ارتكابها، ولا شك أن المقصود بالبحث العلمي هـو البحث العلمي الميداني الذي يقوم على أساس دراسة العينات والإحصائيات وتحليل النتائج باتجاه الارتقاء بسبل ووسائل جديدة لمنع الجريمة، الأمر الذي يستدعي استمرار الصلة بحقائق التقدم العلمي لاستثمارها في الكفاح ضد الجريمة». [1] [ ص: 144 ]

        لذا يمكن القول: إن العملية الوقائية عملية صعبة ومعقدة، متسعة الفروع والاختصاصات، تقع ضمن مسئوليات أجهزة وقطاعات مختلفة، رسمية وغير رسمية، يقتضي تحقيقها توفير الوسائل والأجهزة والمعدات الفنية، وإتقان مناهج العمل التي تمكنها من أداء كامل وظائفها، وتهيئة الكادر القادر على التعامل مع هـذه التجهيزات بأسلوب علمي، فالأجهزة الفنية والمعدات، مهما كانت متطورة، فإنها لا تعين المسئولين عن السياسة الوقائية على اختيار أفضل الخطط لتحقيق الأهداف ما لم تتضافر المعطيات السليمة لهذه العملية.

        ومن الأمور الأساسية التي ينبغي مراعاتها لتنفيذ العملية الوقائية أن يتحقق التوازن بين حركة التطور الذي تقتضيه طبيعة الحياة المعاصرة وبين سلوك الإنسان المتطلع إلى هـذا التطور بالشكل الذي يمكنه من استيعاب هـذا التغيير.. وعملية التغيير ليست سهلة، كما بينا، إذ تتطلب الإحاطة بجوهر النفس الإنسانية، وسبر مجاهلها، والغوص في أعماقها، للإحاطة بها، لأن التغيير من الداخل أصعب وأبلغ في التأثير من تغيير الظاهر والخارج. [ ص: 145 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية