الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        مقدمة

        الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على عدله وامتنانه، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، الرحمة المهداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد:

        فليس ثمة شك في أن الوصول إلى الحقيقة من أهم أهداف الباحث الموضوعي، لا سيما ونحن قد دخلنا في القرن الحادي والعشرين، الذي يتسم بالذكاء البشري والمعرفي الحاد، إذ تجلى فيه كم وكيف هـائلان من إنجازات العلم والتقنية، أحدث ثورة حقيقية قلبت الموازين في طريقة تفكير الإنسان ونمط عيشه على هـذا الكوكب، ولكن مما يؤسف له حقا أن هـذا الذكاء كان بلا أخلاق، وكان دهاء بلا حكمة تقتضيها المعرفة، لأن ذلك الكم والكيف قد وظفا للشر وليس للخير مما دفع بعضهم للقول: بأن هـناك أزمة يمر بها المجتمع الإنساني خلال هـذه الحقبة الزمنية من تاريخه، هـي الأزمة الأخلاقية، وليست العلمية، وأوضح دليل على ذلك الدمار والخراب والتشريد والهجرة القسرية والفقر والبؤس الذي تحقق عبر حربين عالميتين يطلق عليهما بحق «عولمة الموت» فضلا عن الاستعباد والإذلال والهيمنة والتمييز العنصري وازدواج المعايير وانتهاك حقوق الإنسان تحت ذريعة عولمة الحياة. [ ص: 31 ]

        إن هـدف هـذا البحث هـو بيان منهج الإسلام في الوقاية من الجريمة في عصر العولمة



        [1] . [ ص: 32 ]

        ولا بد من الإشارة إلى موضوع العولمة ، كما يشير الباحث في عناوين بحثه، بالنظر لكثرة الأدبيات التي تحدثت عن العولمة، إذ يكاد المرء يصاب بالحيرة عندما يحاول الإلمام بهذا الموضوع أو فهم حقيقته في خضم هـذا الكم الهائل من الكتب والبحوث والمقالات، لا سيما وأنه قد احتل مكان الصدارة في دائرة الاهتمام باعتباره من القضايا الفكرية التي كثر عنها الحديث فجأة، والحيرة نفسها تصيب حتى المختصين والمهتمين بالعولمة فضلا عن أجهزة الإعلام والتيارات المختلفة في المجتمع والرأي العام بأكمله، فضلا عن الندوات والمؤتمرات والحلقات الدراسية التي عقدت لمناقشة هـذا الموضوع.

        ولا ريب في أن مصطلح العولمة مصطلح واسع، مازال حتى اللحظة محل اختلاف من حيث تحديد مفهومه وبيان حقيقته، ولسنا بصدد الكلام عن نشأة العولمة وتحديد مبادئها وبيان منطلقاتها ومن ثم تحديد أهدافها وآلياتها وآثارها؛ لأن هـذا يتطلب مجالا لا تسعه هـذه المقدمة الموجزة، إلا أن الذي يهمنا بهذا الصدد بيان أثر العولمة في الظاهرة الإجرامية؛ لأن الجرائم تزداد ولا تقل، لا سيما في الدول المتقدمة التي تعترف بعجزها عن تحقيق أي انخفاض في معدل الجرائم بل تشكو من تفاقمها وتعقدها بشكل مضطرد يوما بعد يوم، وهذا ما تفعله جميع الدول في المؤتمرات الدولية المنتظمة التي تعقدها الأمم المتحدة كل خمس سنوات والتي تكرسها لمناقشة موضوع الوقاية من الجريمة ومعاملة المجرمين. [ ص: 33 ]

        وعلى الرغم من أن هـذه المؤتمرات قد أشارت في توصياتها إلى ضرورة وضع الخطط المناسبة لمنع الجريمة ومكافحتها، إلا أنها لم تشر بصورة واضحة إلى الصورة والأبعاد الجديدة للإجرام إلا في المؤتمر الخامس المنعقد في جنيف عام 1975م.. والمقصود بالظواهر الإجرامية المستحدثة هـي الأنماط الجديدة من السلوك الإجرامي، التي يمارسها الأفراد نتيجة للتطورات العلمية والتقنية، التي سبقتها ثورة الاتصالات والمعلومات التي قلبت الكثير من الموازين والمفاهيم والمبادئ التي استقرت في الميادين القانونية والثقافية والاقتصادية، مما ينبغي مواجهة هـذا التطور الهائل بالحجم نفسه وتأثيره، وبما أن التقدم العلمي والتقني كان هـو السبب الرئيس في اقتراف الجرائم المستحدثة، فإن وضع سياسة وقائية لهذه الجرائم المتميزة - التي تتطلب من مقترفيها قدرا من الذكاء والمهارة الفنية العالية وتميزهم عن غيرهم من المجرمين التقليديين- تصبح مهمة عاجلة لمخططي هـذه السياسة.

        بناء على ما تقدم يمكن القول: إن العولمة تسهم في زيادة الجرائم المستحدثة [2] التي يلاحظ المختصون أن أكثرها مرتبط بالجريمة المنظمة التي أصبح من العسير السيطرة عليها، نظرا لأن نشاطات الجريمة المنظمة نشاطات [ ص: 34 ] سرية تقوم على الثقة المتبادلة بين المجرمين، وأن نشاطاتها لا تقتصر على نوع واحد من الجرائم، كما أنها تتجاوز الحدود الإقليمية مستفيدة من معطيات التقدم العلمي في ميدان المواصلات والاتصالات لتشمل العالم بأسره.

        وقد أشار إلى هـذه الحقيقة مؤتمر الأمم المتحدة [3] حول الجريمة المنظمة المنعقد في نوفمبر 1994م بالقول: «إن هـناك زيادة ملحوظة في الجريمة الدولية مشيرين إلى تأثير وسائل النقل الحديثة والاتصالات المتقدمة وتخفيف الرقابة على الحدود، وكل هـذه الأشياء التي تدعو لها العولمة وتنادي بها بقوة».

        فالقضية الأمنية في ظل العولمة تصبح هـاجسا مشتركا للجميع، فالحدود التجارية قد أزيلت وأصبح تنقل الأفراد والبضائع ميسورا وسهلا، لذا أصبح الإجرام الدولي أكثر اتساعا، وصارت عالمية الجريمة تزداد مساحة، والجريمة المنظمة أصبحت دولية أكثر منها محلية.

        لقد أصبحت الجريمة أكثر قوة وعنفا وانتشارا بفضل العولمة، التي وضعت بين أيدي المجرمين التقنية الحديثة من الاتصالات والمعلومات، مما سهل لهم الاستفادة من هـذه المعطيات بكل ذكاء ومهارة [4] . [ ص: 35 ]

        وأمام هـذا الخطر الذي بات يهدد الإنسانية جمعاء، لا بد من نموذج ناجح في التجربة، عملي في التطبيق، فعال في الأثر، يخلص البشرية من الشرور والآلام التي سببتها الحضارة المادية الغربية المتمثلة بالعولمة، وهذا النموذج المطلوب هـو الإسلام، الذي نجح على مدى قرون في تحقيق الخير والطمأنينة والسعادة للمجتمع الإنساني، لقناعتنا الكاملة بأن في ذخائر الفقه الإسلامي من المبادئ والنظريات ما لا يقل في رقي الصناعة إن لم يفوقها، وفي إحكام الصنعة، عن أحدث المبادئ والنظريات الفقهية التي نتلقاها اليوم عن الفقه الوضعي الحديث. [5]

        وإيمانا منا بما تتمتع به الشريعة الإسلامية من المزايا المتكاملة والمبادئ السامية والقواعد الرصينة، وبما يتوافر لمضامينها السمحاء من الإمكانات في إقامة البناء الاجتماعي السليم، الذي يجد فيه الفرد ملاذه الروحي وملجأه الآمن وحصنه الأخلاقي، ويحظى المجتمع فيه بالمناخ الذي تتوثق بشرائطه المناسبة العلاقات الاجتماعية، وتسمو بمنطلقاته وشائج التعاطف، وترقى بمدارجه آفاق التطلعات، ولما تتميز به الشريعة الغراء من الكمال والشمول، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وقدرتها على مواكبة حركة الحياة المتغيرة والمتجددة، واتصاف قواعدها بالمرونة والشمولية، لذا فقد [ ص: 36 ] اتصفت أحكامها بالبقاء والخلود، واستهدفت حماية حقوق الناس ومصالحهم وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة، كما تضمنت الأسس العلمية والمنهجية للسياسة الوقائية والعلاجية، تحقيقا للتوازن بين التدابير الوقائية والتدابير العلاجية من خلال إفساح المجال للقيم الأخلاقية وإشاعة معاني التكافل الاجتماعي لتمارس دورها في الوقاية من الجريمة وإصلاح المجرمين [6] ، وهكذا لا يخرج عن حكمها وتنظيمها شيء وهو ما عبر عنه المفكر ابن رشد بمفهوم التكامل بقوله: «الشريعة الإسلامية هـي شريعة متكاملة، ومقصودها تعليم الحق والعمل الحق.. والعمل الحق هـو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء» [7] .

        إن إدراك هـذه الحقيقة يعني أن الالتزام بأحكام الشريعة ومنهاجها والوقوف عند حدودها يؤدي قطعا إلى السعادة في الدنيا الآخرة، لأن الهدى محصور فيها غير موجود في غيرها، قال تعالى: ( ( قل إن هـدى الله هـو الهدى ) ) (البقرة:120)، لذا فإن عدم الاهتداء بهدي الشريعة الإسلامية معناه الانحراف عن مناهجها وقواعدها، وعدم الالتزام بأحكامها وأوامرها، مما يفضي قطعا إلى الشقاء والتعاسة في الدنيا [ ص: 37 ] والآخرة، قال تعالى: ( ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) ) (طه:124) ، فالمعيشة الضنك بمختلف أنواعها المادية والمعنوية هـي جزاء من ينحرف عن شرع الله ومنهجه. [8]

        وقد لخص ابن قيم الجوزية هـذه المعاني بقوله: «إن الشريعة الإسلامية مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصلحة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة في شيء، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها» [9] .

        ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعي في إكمال موجبات الصحة، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة، قال تعالى: ( ( وننزل من القرآن ما هـو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) ) (الإسراء:82) فجميع القرآن شفاء للمؤمنين من الأمراض الروحانية والجسمية، فالقرآن شفاء للأمراض المتمثلة بالأخلاق المذمومة بالإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، وأما كونه رحمة للمؤمنين [ ص: 38 ] فهو يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات المبطلين، ويفيد في تعليم العلوم النافعة، والأخلاق الفاضلة التي يصل بها الإنسان إلى جوار ربه [10] ، وهذا مصداق لقوله تعالى: ( ( قل هـو للذين آمنوا هـدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ) ) (فصلت:44).

        والقرآن الكريم كله تربية أخلاقية، وعندما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهاعن خلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قالت: ( كان خلقه القرآن ) ، لهذا يمكن القول: إن موضوع التربية الأخلاقية من أهم المواضيع التي اهتمت بها الشريعة الإسلامية، فالإسلام أكمل البناء الأخلاقي الذي بدأ به الأنبياء السابقون، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) [11] ، وصدق الله العظيم إذ يقول معبرا عن عظمة الأخلاق التي كان الرسول الكريم عليها:

        ( ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ) (القلم:4).

        ولسنا بصدد بيان طبيعة التربية الأخلاقية الإسلامية وفلسفتها وخصائصها، لأن هـذا لا يتسع له مثل هـذا البحث الموجز، فالتفصيل يتطلب دراسة مفهوم التربية الأخلاقية ومقابلته بجميع الأفكار السابقة [ ص: 39 ] واللاحقة، والمهم من كل ذلك هـو إبراز ما تمتاز به الشريعة الإسلامية باعتبارها أكمل الرسالات الإلهية وأصلحها للحياة البشرية في كل زمان ومكان، وبيان دورها التربوي في بناء الفرد وتحصينه ضد الجريمة، فموضوع التربية الأخلاقية كما بينا من أهم الموضوعات المتعلقة بالحياة الإنسانية الواقعية، ومن الأهمية بمكان معرفة قيمة الدراسة التي نحن بصددها ودورها في بناء نهضتنا وتقدمنا، حيث يجب أن تأخذ من العناية والاهتمام بقدر قيمتها في حياتنا، لأنه لا خير في الفرد أو المجتمع ما لم يرب على مبادئ وقيم أخلاقية، ولا يمكن إيجاد الأسس الأخلاقية السليمة إلا بالتربية الأخلاقية، ولا يتحقق بناء الفرد والمجتمع بناءا أخلاقيا سليما بمجرد نظرية عامة مهما كان تقديمها مشوقا ومقنعا، وإنما لا بد من إيضاح الوسائل التي تتقدمها الأهداف التربوية وفق رؤية واقعية توفق بين الجوانب النظرية والعملية، ولا يكفي تحديد وسيلة معينة بل يجب توظيف كل الوسائل الضرورية لتحقيق الوقاية من الجريمة.

        والآن، وبعد هـذه المقدمة الموجزة، لا بد من الإشارة إلى أن المقارنة تقتضي بيان منهجية السياسة الجنائية الوضعية في الوقاية من الجريمة، وهذا ما أفردت له فصلا مستقلا، ليكون بين فصول البحث وفقا لخطة البحث الآتية:

        الفصل الأول: المنهج الأخلاقي للشريعة في الوقاية من الجريمة.

        الفصل الثاني: المنهج التكافلي للشريعة في الوقاية من الجريمة.

        الفصل الثالث: منهج السياسة الجنائية الوضعية في الوقاية من الجريمة. [ ص: 40 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية