الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني: مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

        المبدأ الأول: مبدأ التعارض والتكافؤ

        يتجلى هـذا المبدأ في إصلاح الأئمة؛ لأن الإمام إذا كان يقترف مناكير بلا معروف يجب الخروج عليه بل يعد باغيا، لأنه متجاوز حدود الله، فإذا كان الإمام يرى معروفا ومنكرا نظر إلى الغالب منهما، فإن كان الغالب هـو المعروف ترك وشأنه، وإن الغالب هـو المنكر وجب إصلاحه.. وإن تساويا، بحيث استوت كفة المنكر مع كفة المعروف، ترك وشأنه فلا أمر ولا نهي، وفي هـذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة" فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت: [ ص: 95 ] فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد. فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هـو بميزان الشريعة [1] .

        وهذا رأي سديد ونهج رشيد، فلو وجد مستعمر ديدنه الظلم والطغيان لا يدع منكرا إلا كان أسرع إليه من الشيطان، يلهو بالخمر والميسر تارة ويلهو بسفك الدماء تارة أخرى، فإن تركه في رذيلة الخمر والميسر أولى من إبعاده عنها، لئلا يوجه طاقته إلى سفك الدماء وهتك الأعراض، وقد بنيت هـذه القاعدة على مبدأ: «درء الضرر الأكبر بالضرر الأصغر» ، وعلى تعارض المفاسد، إذ المفسدتان إذا تعارضتا روعيت أخفهما ، وهذا المبدأ مستنار به في التربية، إذ الولد الذي شب عن الطوق لو اتجه إلى الخمر والتدخين فإن تركه التدخين واجب إذ أفضى إلى تركه شرب الخمر، ولو اتجه إلى الميسر والزنا فإن الإنكار الأشد يصب على جريمة الزنا خشية من اختلاط الأنساب وما يتبع من عقبات يطول ضرامها كانتشار اللقطاء والإصابة بالشذوذ والانحراف وما ينجم من أسقام أبرزها مرض الإيدز.

        هذا عن التعارض، أما عن التكافؤ فقد قال ابن تيمية : «وعلى هـذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون [ ص: 96 ] بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وأن استلزم ما هـو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات.. وإن كان المنكر أغلب نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هـو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعنية الواقعة» . [2]

        والذي نراه أن هـذا المبدأ يستنار به في حالة ضعف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أما في حالة السمو الروحاني الذي يسود المجتمع القرآني، فلا تناسب ولا تكافؤ بين المنكر والمعروف، بل الواجب المفترض النهي عن المنكر سواء أكان صغيرا أم كبيرا، وهذا يتجلى في المجتمع الإسلامي حيث الأرواح أوشكت أن تعرج إلى العالم الملائكي حينما تربى ضمير الفرد تربية أخلاقية فاضلة نجحت في تنقية قلبه من الأمراض المعنوية التي تصيبه.

        وفي التاريخ الإسلامي ظواهر مشرقة تدل على سمو تلك الأرواح المغدقة، منها قول الفاروق، رضي الله عنه: ( أطيعوني ما أطعت الله، فإن [ ص: 97 ] عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ) ، ولما انتهى من خطبته التي ألقاها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مسلم بقلب مطمئن واقفا على قدم الرسوخ والثبات والاستقامة، لا يخشى بطشا ولا يأمل ظلما ولا يظن إرهابا، قائلا: لا سمع ولا طاعة، قال الفاروق والعجاب يعلوه من أخمص الأقدام إلا أعلى الهام، لثقته بعدالته: لم يا عبد الله؟ فأبدى الأعرابي علة اعتراضه: لقد قسمت علينا كساء، وأنت أطولنا وأضخمنا، فكيف كفاك كساؤك؟ لم يغضب الفاروق، ولم يعد ذلك ماسا بخلافته، بل استعان في إظهار الحق بولده، إذ قال: أجب يا ولدي يا عبد الله .. قال عبد الله: والله لقد وهبته كسائي، فأضافه إلى كسائه فوسعه.

        وظاهرة أخرى تتجلى فيها الرقابة الجماهيرية تجليا ذاتيا، ( قال عمر ، رضي الله عنه، لرعيته: من رأى منكم اعوجاجا فليقومه، فقال له أحد الحاضرين: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا، قال الفاروق: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه ) [3]

        وقد بين الخليفة الراشد عمر ، رضي الله عنه السياسة التي يجب أن يعتمدها الأمراء؛ لأن الأمير إذا ظن أن تسلطه على الرعية مشروع تجبر وطغى، وبناء على قاعدة: «رد الفعل الاجتماعي» فإن المجتمع يكون أشد طغيانا، وذلك مشروع بناء على حقه في الدفاع عن نفسه، فإذا ظن الأمير أنه موكل من الأمة لينوب منابها في الحكم تلطف، وبناء على قاعدة: [ ص: 98 ] «رد الفعل الاجتماعي» فإن الأمة تكون أشد تلطفا منه إليه.. إن تلطف ذو المناصب يرفعهم بأعين الناس، قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه في رسم النهج السياسي لأمرائه:

        ( اتقوا الله فإنا لا نؤمركم على دماء المسلمين، ولا على أموالهم، ولا على آثارهم، ولا على أعراضهم، ولكن نؤمركم لتصلوا بهم الصلاة لوقتها، وتجاهدوا بهم على عدوهم، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، ولا تضربوا العرب فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقهم فتحرموهم، ولا تجمروهم فتعنتوهم ) . وقال في خطبة أخرى: ( إني لم أبعثكم جبابرة وإنما بعثتكم أئمة، لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحرموهم فتظلموهم، ولا تجمروهم فتعنتوهم ) . [4]

        وقد أمر الله تعالى الراعي والرعية بالعدل والعدالة، لأن أجل نعمة هـي إعطاء كل ذي حق حقه، وهذا لا يكون إلا بالعدل، ولهذا قال الحكماء: عدل السلطان خير من خصب الزمان.

        ويبدو أن الإعجاز القرآني تفسره الأيام، قال تعالى: ( ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) ) (المائدة:66). [ ص: 99 ]

        وفي عاقبة الملك العادل قال الماوردي :

        «وإذا أحكم الملك قواعد ملكه باستعمال الحزم وبسط العدل ولم يغفل عن الحزم في صغير ولا كبير، ولم يترخص في الجور من قليل ولا كثير، أحاطت السلامة بملكه، وصفت السعادة بدولته، فأمن غوائل الفساد، وسلم من ظهور الفساد، وكان الناس معه من بين حامد لعدله وإحسانه، وحذر من بأسه وسلطانه» . [5]

        وقد وعى علماء السياسة في التاريخ الإسلامي المشرق عواقب الظلم الكأداء فجعلوها في صلب مؤلفاتهم؛ لأن الملوك يدرسون هـذه الأسفار القيمة فيتقون هـادية الظلم.

        وفي هـذا قالوا: واحذر دعوة المظلوم وتوقها، فإنها أنفذ من السهم، وأضر من السم، ليس بينها وبين الله حجاب. [6]

        المبدأ الثاني: مبدأ تكامل الصلاح:

        ويكون هـذا بالإيمان وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ( ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف [ ص: 100 ] وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ) ) (آل عمران:113-114)، لقد عطف الله سبحانه وتعالى صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صفة الإيمان، والمتعاطفان متغايران، والأمة تتسم بالصلاح المتكامل إذا أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر.. وآمنت بالله تعالى، قال الغزالي [7] : لم يشهد الله تعالى للأمة بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. قال المفسر الرازي ، رحمه الله: واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام، فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته... وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين، وذلك بطريقتين: إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف، أو بمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر [8] . وقد ورد هـذان المتعاطفان في قوله تعالى: ( ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ) (آل عمران:110).

        وفي تفسير هـذه الآية القرآنية الكريمة، قال المفسر الرازي : هـذه الآية اشتملت على التحلي بثلاثة أشياء: أولها الدعوة إلى الخير، ثم الأمر بالمعروف، ثم النهي عن المنكر، ولأجل العطف يجب كون هـذه الثلاثة متغايرة. [9] [ ص: 101 ]

        وتعد الأمة مقترفة الفساد، متلبسة فيه، إذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كانت مؤمنة بالله واليوم الآخر، قال تعالى: ( ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ) ) (التوية:71)، قال الإمام الغزالي : نعت الله تعالى المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالذي هـجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هـؤلاء المؤمنين المنعوتين في هـذه الآية.

        المبدأ الثالث: الولاية بين المؤمنين

        الولاية بين المؤمنين تتجلى إذا تحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع إقامة الصلاة، وهذا مستنبط من قوله تعالى:

        ( ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ) ) .

        وبناء على مبدأ مفهوم المخالفة، فإن الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر متسمين بسمات المنافقين، قال الفقيه الجصاص ، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى:

        ( ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هـم الفاسقون ) ) (التوبة:67) : أضاف سبحانه وتعالى بعضهم إلى بعض باجتماعهم على النفاق، فهم متشاكلون [ ص: 102 ] متشابهون في تعاضدهم على النفاق والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، كما يضاف بعض الشيء إليه لمشاكلته للجملة. [10] .

        وإلى هـذا ذهب القرطبي ، إذ قال: ومعنى قوله تعالى: ( ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) ) (التوبة:67) أي هـم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين.. وقال الزجاج، هـذا متصل بقوله: ( ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هـم منكم ) ) (التوبة:56)، أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، ومعنى قوله تعالى: ( ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ) أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف. [11]

        المبدأ الرابع: عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

        الأمور بعواقبها؛ لأن العاقبة ختام كل ما يبدأ، من بدأ خيرا وكانت العاقبة شرا صار كله شرا، وإن بدأ شرا وكانت العاقبة خيرا صار كله خيرا، وقد دلت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية على أن عاقبة الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، أمة وفردا، شر مستطير، من هـان عليه انتهاك حرمات الله دون الثأر لأحكام الله بالنهي عن المنكر فقد هـان على المنتهك، بل هـو أهو على المنتهك من اقتراف المنكر، وكذلك الأمة [ ص: 103 ] يهونها الظالمون ويستحيونها ويسومونها سوء العذاب إذا ارتضت المنكر دون التضحية بالجزء في سبيل إعلاء كلمة الله، والأمة التي لا تضحي ببعضعها تهون على الظالمين كلها، ولهذا تجلى ما تجلى من ظهور أمم يحز الأسى في قلبنا إذا نراها محمدية إلا أنها تنحر كالشياه المذللة للجزارين، إذ ذللت للطغاة وهم ينحرون منها ما يشاءون وهي منقادة (تخر) للنحر غير مستنيرة بمبدأ النهي عن المنكر والأمر بالمعروف الذي يعزها ويجعل الحاكمين يخشونها ولا تخشاهم.

        قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) ) أي لا ينهى بعضهم بعضا: ( ( لبئس ما كانوا يفعلون ) ) ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم [12] .. أخرج أبو داود ( عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هـذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك.. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض.. ثم قال: ( ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) ) إلى قوله ( ( فاسقون ) ) ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي [ ص: 104 ] الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا ... أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم ) [13] .

        وقد أكد الفقيه الجصاص [14] هـذا المبدأ السامي.

        ولا يمكن الاحتجاج البتة في ترك النهي عن المنكر بقوله تعالى: ( ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ) (المائدة:105)؛ لأن الله تعالى خاطب المؤمنين بصيغة الجمع، وبمقتضى هـذه الصيغة فإن كل مؤمن مسئول عن المؤمنين، كلما رأى منكرا نهاهم عنه، ومما يؤكد ذلك الحق أن الله تعالى لم يقل: يا أيها المؤمن عليك المؤمن، قال الفقيه الجصاص : ( قال أبو بكر ، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: يا أيها الناس إنكم تقرأون هـذه الآية وتضعونها في غير موضعها: ( ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ) وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ) ( وحدثنا أبو أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هـذه الآية: ( ( عليكم أنفسكم ) ) ؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك - يعني بنفسك - ودع [ ص: 105 ] عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله».. قال: وزادني غيره: قال يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم ) [15] .

        المبدأ الخامس: الاعتزال

        يعتزل المسلم عن المنكر إذا رآه بحيث يفضي التغيير إلى فتنة وضرر أعم منه، وهذا المبدأ نحن نسلم به، قال تعالى: ( ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) ) (الأنعام:68).

        جاء في أفكار الإيجي والديواني: وشرطه، أي شرط وجوبه وندبه، أن لا يؤدي إلى الفتنة، فإن علم أنه يؤدي إليها، لم يجب، ولم يندب، بل ربما كان حراما، بل يلزمه أن لا يحضر المنكر، ويعتزل في بيته لئلا يراه، ولا يخرج إلا لضرروة، ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة، إلا إذا كانت عرضة للفساد. [16]

        وفي نفحات الدعوة الإسلامية يصطفي المسلم من يتوسم فيهم القلب الصالح الذي تزدهر فيه بذرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما القلوب [ ص: 106 ] المختومة بالغلق والرين والغشاوة فقد يضطر المسلم إلى تركهم ليوجه طاقتهم إلى من هـو أهل لتقبل رواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ( ( وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) ) (الأنعام:70).

        وقد استخلص المفسر سيد قطب ، رحمه الله، من هـذه الآية عدة أمور، أهمها:

        1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم - وينسحب الأمر على كل مسلم - مأمور أن

        يهمل شأن الذين يتخذون دينهم هـزوا ولعبا.. وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل.. فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته، اعتقادا وعبادة، وخلقا وسلوكا، وشريعة وقانونا، إنما يتخذ دينه هـزوا ولعبا.. يجب مفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى.

        2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم - وينسحب الأمر على كل مسلم- مأمور بعد إهمال شأن هـؤلاء الذين اتخذوا دينهم هـزوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا، أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم، كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت. [17] [ ص: 107 ]

        المبدأ السادس: الواجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وإن لم يفض الأمر إلى المعروف :

        وهذه قيم تتماشى مع المبادئ الأساسية في الدعوة الإسلامية، لأن المسلم لا يمر بمرحلة العقدة النفسية المترتبة على الفشل في الإصلاح؛ لأن الفشل لا يعجزه، قال تعالى: ( ( فذكر إنما أنت مذكر ) ( لست عليهم بمصيطر ) ) وقال تعالى: ( ( فذكر إن نفعت الذكرى ) ) ، وقال تعالى: ( ( وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ) ، ومع أن الأمر بالمعروف واجب إجماعا، فلا إفراط فيه ولا تفريط؛ لأن التكليف بالاستطاعة سمة كل مبادئ الشريعة الإسلامية حتى العبادة، قال تعالى: ( ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ) .. وحمل النفوس على الاستطاعة دليل نفي الإفراط والتفريط، قال ابن الجوزي : «ويجب أن يكون محددا كالسخاء فإنه إن أسرف فيه كان ملقا»، يقال ملق وملق له إذا أعطاه بلسانه ما ليس في قلبه «مذموما وإن توسط واقتصد فيه كان معروفا وبرا محمودا» . [18]

        هذا باختصار أهم مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن الكلام عنها يبدأ ولا ينتهي، يطول ولا يقصر، إلا أننا حرصنا أن نتعرض لبعض هـذه المبادئ التزاما بأهداف هـذا البحث الموجز، وبما يحقق مفهوم السياسة الوقائية في الشريعة الإسلامية. [ ص: 108 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية