الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول

        السياسة الإنمائية

        تهدف السياسة الإنمائية التي تعتمدها الدول المتطورة إلى إحداث تغير أساس وجوهري في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ليشعر المجتمع بالأمن والاستقرار والرضا، من أجل رفع مستوى الفرد والارتقاء به إلى المكان اللائق به بما يحقق شعوره بالطمأنينة، ويكفل مواجهته للتحديات المعاصرة بما يتميز به من إمكانية وطاقة فكرية ونفسية للوصول إلى طموحه المشروع.. وتتحدد أساليب هـذه السياسة بحاجات البلد وإمكانياته المادية والبشرية.

        ويتحقق التطور الجذري في البيئة الاجتماعية بوسائل عديدة من أهمها: إعداد وسائل التنشئة الاجتماعية السليمة لتحقيق الحياة الكريمة للأسرة بتهيئة المساكن المريحة وتحسين وسائل الراحة المناسبة والمرافق الضرورية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتلبية الحاجات الأساسية للأفراد، ومحاربة التحلل الأخلاقي والتفكك الأسري، وتحقيق التطور الجذري في البيئة الاقتصادية برفع المستوى المعاشي للأفراد، وتقديم الإعانات الضرورية، وإيجاد فرص العمل للقضاء على البطالة المقنعة وإيجاد التوازن، وتحقيق العدالة الاقتصادية بالتوزيع العادل للثروة، ومعالجة المشاكل الناجمة عن التقلبات الاقتصادية المفاجئة والغلاء، حماية للأفراد من الانحراف. [ ص: 133 ]

        لذا يمكن القول: إن التأثير في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية يكون مردوده أكثر في شخصية الفرد من الظروف الأخرى، لأن آثاره لا تنحصر في فرد معين وإنما تتناول المجتمع بأسره أو مجموعات كبيرة من أبناء المجتمع، إذ من الثابت لدى علماء الإجرام وعلماء النفس أن التأثير بالإنسان المنحرف وتقويم شخصيته ليس بالأمر الهين، إضافة إلى أنه غير مضمون العواقب نظرا لاختلاف الطبيعة البشرية بين فرد وآخر، فكل إنسان عالم قائم بذاته يضم مجموعة غير متناهية من المشاعر والأحاسيس والدوافع التي تتباين ليس من شخص لآخر فحسب ولكن في النفس الإنسانية الواحدة، وخلال فترات زمنية مختلفة قد لا تتجاوز في بعض الأحيان بضع لحظات، وتبعا للحالة النفسية والظروف التي تحيط بذلك الإنسان.

        وتحقيقا لتلك السياسة الإنمائية ينبغي مراعاة الاعتبارات الآتية:

        1- ما أثبتته الدراسات والبحوث والإحصاءات من وجود علاقة بين السلوك الإجرامي والظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية القائمة التي يعاني منها من اقترف الجريمة.. ومن إجراء تحليل لأي نوع من أنواع الجرائم أو القيام بفحص لأي فئة من فئات المجرمين، يتضح لنا تأثير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على سلوك الفرد، فجرائم السرقة مرتبطة بالانحلال في التربية الأخلاقية والأوضاع الاقتصادية والثقافية وليست بسبب الفقر فقط، وإنما بسبب ضغوط الحياة المادية التي تضع الإنسان في سباق مع الثروة، لأن الثروة مع الأسف أصبحت تعبر عن الوضع الاجتماعي للإنسان [ ص: 134 ] وفقا للمفاهيم المعاصرة وليس العكس، إذ المفروض أن الوضع الحقيقي للإنسان هـو مستوى رقيه الأخلاقي والعلمي وهو أفضل بالتأكيد من الوضع الاقتصادي، وينبغي أن يكون الترتيب وفق هـذا الأساس، لأن وضعه الاجتماعي واحترامه مرتبط برقيه ومستواه الأخلاقي والثقافي، والجرائم مرتبطة بالوعي الأخلاقي والثقافي للأفراد والظروف الاجتماعية والثقافية والتربوية السائدة في المجتمع.

        إن هـذا التوجه يعطي للسياسة الإنمائية بعدا أمنيا، ولهذا سمي بالأمن الاجتماعي، لذا يمكن القول: إن تحقيق الأمن الاجتماعي يعد من أهم الأهداف التي تسعى السياسة الإنمائية لتحقيقها، إذ بقدر توفر هـذا الأمن في مجتمع معين تختفي العوامل المساعدة للجريمة، مما يؤدي إلى بروز العوامل الإيجابية المانعة من الجريمة، ففشل السياسة الإنمائية في تحقيق التكافؤ بين المتطلبات والحاجات يفضي إلى الخلل في البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الذي يفضي إلى السلوك الإجرامي.

        2- أملى التطور العلمي والتقني والثقافي على المجتمعات المعاصرة مواكبة هـذا التطور؛ لأن التخلف من شأنه أن يوجد تفاوتا كبيرا بين متطلبات الحياة الجديدة التي يصعب تجاهلها أو الوقوف في وجهها وصد تيار حركتها وبين فطرية الإنسان ونوازعه الإنسانية وقدرته على التمتع بمزايا هـذه المتطلبات ومن ثم استيعابها، في حين أن الواجب يملي على الجهات المختصة المعنية بتطبيق السياسة الإنمائية قيامها بإحداث تطور جذري في [ ص: 135 ] البيئة الاجتماعية هـدفه تغيير الأوضاع الحياتية والظروف الاجتماعية وجعلها تتناسب مع المتطلبات الجديدة، من أجل تفادي الخلل الذي يسبب السلوك المنحرف.

        3- يحرص الاتجاه الحديث على تبني السياسة الإنمائية عملا إنمائيا معينا يحقق البعد الأمني من خلال تحقيق أهداف هـذه السياسة، ويتحقق ذلك من إعطاء هـذ السياسة أبعادا مختلفة منسجمة مع بعضها بعضا، دون اقتصاره على تحقيق هـدف معين، ففي الميدان الاجتماعي مثلا فإن مفهوم الخدمة الاجتماعية لا يقتصر على توفير المساعدة الاجتماعية لتحسين الوضع الاجتماعي بل يمتد إلى تربية الإنسان وصياغته صياغة أخلاقية قادرة على تغيير الإنسان جذريا، وتغيير مقومات شخصيته ونفسيته، بحيث يكون قادرا على استيعاب معاني التطور وتحمل مسئوليته تجاه نفسه وتجاه مجتمعه وأمته، لأن القدوة الحسنة والمثل الأعلى وتحمل المسئولية ينبغي أن تكون متحققة في كل فرد من أفراد المجتمع، بالشكل الذي بينه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته... وكلكم راع ومسؤول عن رعيته ) [1] . [ ص: 136 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية