الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        عولمة الجريمة (رؤية إسلامية في الوقاية)

        الأستاذ الدكتور / محمد شلال العاني

        المبحث الرابع

        أثر التربية الأخلاقية في تحقيق الوقاية من الجريمة

        إن للتربية الأخلاقية آثارا جليلة الخطر، عظيمة الأثر، إذ تتجلى بالأخلاق الحميدة، ولا يستقيم الأمر فرديا وجماعيا ألا بالأخلاق الفاضلة التي تجعل صاحبها مسـتقيما استقامة ذاتية يعرف بها ما له وما عليه، ولا إخال جريمة في مجتمع يحكم أبناءه أنفسهم بأنفسهم بتوجيه أخلاقي ذاتي؛ لأن الحق تراه بصائر القلوب؛ والبصائر النقية ترى الحقائق مجلية إذا لم تغشها أدران الباطل وحب الذات والأثرة والخيلاء والحسد فترزأ بل تعشو عن رؤية الحق كما يعشي الرمد الأبصار.

        فالخلق الحسن تسمو به الروح عن أدران المادة، وتترفع عن أهوائها ونزواتها وأمراضها، فترى بصفائها ونقائها الحق رؤية يقينية، فتأنف الرزيلة والشر والجريمة وتنهل من مورد الفضـيلة والخير والاسـتقامة، فلا تعتدي ولا تظلم ولا تشعر بأفضليتها على من سواها، بل تصل إلى مرتبة الصفاء الإيماني المطلق، فتعفو عمن أساء إليها واعتدى عليها، وهذه هـي مرتبة الإحسان، الذي يتمثل بأزكى الخصال وأطيبها، فهو: أن تعفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، وأن تعطي من حرمك، وأن تحسن [ ص: 67 ] لمن أساء إليك، فهل هـناك في دنيا المثل، مبادئ وقيم ترتقي في العفو والتسامح إلى هـذه المرتبة؟ وهذا الحكم مستنبط من قوله تعالى: ( ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) ) (البقرة:237)، وقد جعل القرآن الكريم العفو من أعلى درجات الإحسان، قال تعالى: ( ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ) ) (الشورى:40)، والعدل والإحسان كلاهما مما أمر الله تعالى بقوله: ( ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) ) (النحل:90).

        وفي جرائم القصاص، كجرائم القتل العمد وجريمة إتلاف الأطراف وإحداث الجروح عمدا، حثت الشريعة الغراء ذوي الدم والمجني عليه أن يعفو عن الجاني ما أمكنه ذلك، سترا للجاني وحفظا لنفسه من نوازع الثأر والانتقام، ومحافظة على المجتمع من أن تنال منه إشاعة الفاحشة والجريمة.. فالعدل هـو القصاص من الجاني، والإحسان هـو العفو عنه، ولذلك أهاب القرآن الكريم بالمسلمين أن يعفوا عمن أساء إليهم، ومقابل ذلك حض الجاني على حسن التعامل مع المجني عليه، وتعويضه بما يرضيه، وإصلاح ما أفسده، فإن لم يفعل الجاني ذلك، واستمر على عدوانه فإن له عذابا أليما في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ( ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) ) (البقرة:178). [ ص: 68 ]

        إن هـذا النهج القويم الذي اتبعته الشريعة ما هـو إلا مظهر من مظاهر فكرة (الأخوة) التي حـلت محـل فكرة (الخصومة) و (العداوة) التي كانت سـائدة في الجزيرة العربية قبل بزوغ فجر الإسـلام، قال تعالى: ( ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) ) (الحجرات:10)، فالأخوة حلقة تتبعها حلقات العفو والصلح والإصلاح بين المتخاصمين.

        وقد قسم الفقهاء مراحل تصفية الخلق وتزكية النفس إلى مرحلتين:

        المرحلة الأولى: التخلية

        وفيها يتخلى المؤمن عن الأخلاق الذميمة، وهو رأي سديد وراجح، لأن الورقة المكتوبة لا يمكن الكتابة عليها مرة أخرى إلا إذا خليت فأصبحت ناصعة البياض، وهذا مستنبط من قوله تعالى: ( ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) ) (البقرة:256)، لقد قدم الباري عز وجل وجوب الكفر بالطاغوت على الإيمان، لكي تتخـلى النفس عن الشيطان وكل رأس في الضـلال وتؤمن بالله، ليمكن ملؤها برواء الإيـمان، ولما كان الـكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعـتقده القلب، (سميع) من أجـل النطق، (عليم) من أجل المعتقد [1] . [ ص: 69 ]

        المرحلة الثانية: التحلية

        وفيها يتحلى المؤمن بالخلق الحسن، إذ يتزين به كما يزين بدنه بأزكى الثياب، إذا رسخ هـذا الخلق بقلبه أضحى ذاتية فيه لا يطيق التخلي عنه أو خلعه كما يخلع الرداء، وعندها يصل المؤمن إلى مرتبة الإحسان [2] ، وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) [3] .

        ومن خلال تعريف ابن سينا للخلق يبدو العنصر الذاتي المحض الناتج عن تفاعل النفس مع العقل، في التمسك بالخلق الحسن تمسكا ذاتيا شأنها في ذلك شأن المقومات التي لا تتم الحياة من دونها نتيجة التمسك بالأخلاق التي يجب أن يحيل عليها، قال ابن سينا: «الخلق هـو هـيئة تحدث للنفس الناطقة من جهد انقيادها للبدن أو عدم انقيادها، وبأنه ملكة تصدر بها عن أفعال ما بسهولة من غير تقديم روية» [4] .

        ويوشك الإمام الغزالي أن يفصح عن وجود جهاز مستقر على شكل هـيئة في العقل أو في النفس يصـدر عنه الفعـل، سـواء أكان محمـودا أم ذميما، وفي هـذا قال رحمه الله: «الخلق عبارة عن هـيئة في النفس [ ص: 70 ] راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة، عقلا وشرعا، سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقا سيئا» [5] .

        والمتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها تخاطب العقل السليم المستقيم، قال تعالى: ( ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ) (الرعد:3)، ( ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ) (ق:37)، ( ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ) (الحج:46)، وغير ذلك من الآيات التي لا يتسع لها هـذا البحث الوجيز، لأن العقل أساس مصـادر المعرفة، وهذا ما تجلى عند المفـكرين المسـلمين أمثال ابن سينا والفارابي وابن مسكويه، إذ العقل والشرع يدرك بهما الحسن والقبح، الحرام ما حرمه الله لقبحه، والواجب ما أمر به لحسنه، لذا أمرت الشريعة الغراء أصحاب العقول السليمة بنبذ الشر ذاتيا وحب الخير والتمسك به ذاتيا، لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الخلق الحسن عنصرا غريبا ترفضـه العقـول، لأن العقول تتفاعل مع الأخـلاق بلا حرج ولا مساومة، والخلق السليم من الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، والعقول تستجيب للفطرة ولا يشق عليها الاستجابه لها، لهذا فإن صلاح [ ص: 71 ] الإنسان، وإن كان موغـلا في الإجرام، أمر ممكن عقـلا في شريعة الله، لا سيما وأن الأصل في الإنسان الصلاح والفضيلة.

        ولو فكرنا مليا بمنهج الشريعة الغراء في الوقاية من الجريمة لوجدناها اعتمدت السبل التربوية كمنهج أساس، بصفته المؤثر الإيجابي على مدركات الإنسان ومشاعره وملكاته النفسية، وقد تضمن القرآن الكريم هـذا المنهج التربوي المفضي إلى صقل الروح وإنارة القلب في كل نفحات الحياة، فعلى صعيد تحقيق الانضباط الأخلاقي يحرم القرآن الكريم الكبر والعجب والخيلاء، والكبر هـو التعالي على الآخرين، والعجب والخيلاء هـو شعور الإنسان بأفضليته على من سواه، قال تعالى: ( ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ) ) (الإسـراء:37-38)، وقال تعالى: ( ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ) ) (لقمان:18).

        إن هـذه الكبائر أدواء، لو تخلصت الشخصية الإنسانية منها لتجلى الإنسان الأمثل الذي يحب ويحب.. وأنى يقترف الجريمة من كان محبا محبوبا آلفا مألوفا؟ أما الذي يتسربل بسربال العجب ويرزأ بداء العظمة فهو أقرب من غيره إلى اقتراف الجريمة، لأنه يشعر بأن الذي سواه دونه، وازدراء الناس أمر هـين عليه، إذ من هـان أمر الناس في نظره هـان اعتداؤه [ ص: 72 ] عليهم.. وهذا مبدأ عام، ينطبق على كافة الجرائم بما فيها جرائم المرور، التي تشمل أبسط المخالفات المرورية، وبعض الجنح التي عاقب عليها المشرع دون النظر إلى النتائج المترتبة عليها، باعتبارها من جرائم الخطر، وبناء على ذلك فقد جرم المشرع الأفعال الخطرة حرصا منه على درء الأضرار المحتمل وقوعها، لا سيما في جرائم المرور التي اعتبرها المشرع الجنائي من أكثر الجرائم خطرا على أمن المجتمع وسلامته، وإن لم تسبب ضررا بـ (الغير).. وقد نص قانون المرور على صور عديدة لهذه الجرائم تضمنتها الكثير من مواده.

        وفي تفسير قولـه سبحانه وتعالى: ( ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ) ) ، قال المفسـر الرازي [6] : ( ( ولا تصعر خدك للناس ) ) تكبرا ( ( ولا تمش في الأرض مرحا ) ) تبخترا ( ( إن الله لا يحب كل مختال فخور ) ) يعني من يكون مفتخرا بنفسه، وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه، ثم قال: ومن يكون متكبرا على غيره يكون متبخترا؛ لأنه لا يتكبر على (الغير) إلا عند اعتقاده أنه أكبر منه.

        ولا علاج لداء العجب والكبر والخيلاء إلا بلسم الإيمان، إذ يقف الكبير والصغير، الغني والفقير، على صعيد واحد في الصلاة والصيام والحج، وبهذا يألف الناس لباس التواضع والمسـاواة.. وقد ارتعد أعرابي [ ص: 73 ] مذ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الرسول الكريم: ( هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ) [7] .. وللحكماء أقوال شتى في ذم الكبر، الذي يخل في بناء الشخصية الإنسانية، لا يتسع هـذا البحث للاستئناس بذكرها.

        وبهذا العرض الوجيز يتجلى منهج التربية الأخلاقية في القرآن واضح البيان، إذ يستأصل الكبر والعجب من نفس الإنسـان فيضحى إنسانا كما خلقه الله على الفطرة السليمة، يحب لغيره كما يحب لنفسه، ومن كان هـذا ديدنه أنف الرذيلة والجريمة.

        والشيء نفسه بالنسبة إلى الغضب والحقد والحسد والتمني المفضي إلى الحسد، إذ تتكامل الشخصية بتجلي الحلم والقناعة والرضا والإيثار.

        إن هـذا النفحات القرآنية المباركة لو اتبعت في المجتمع لأفضت إلى الانضباط الأخلاقي في ميادين الحياة كافة، وما من ظاهرة فردية أو أسرية أو اجتماعية إلا ولها آداب في شريعة الله تعالى، فإذا رسخت هـذه المعاني الفاضلة في النفوس ووعاها الإنسان في المجتمع منذ صباه فإنه يتأدب بها أدبا ذاتيا، ويلتزم بها دون رقيب، لشعوره بقدسية هـذه المبادئ، ولا نجد مثل هـذه القدسية للقوانين الوضعية وأحكامها، وهذا سبب رئيس في حب الخروج عليها وعدم الالتزام بها [ ص: 74 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية