الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الأول: مكانة الزكاة في الإسلام: [1]

        تعتبر الزكاة من أهم وسائل التكافل الاقتصادي في الإسلام، لما تتضمنه من مبادئ أخلاقية ومعاني اقتصادية. لذا عدها الفقهاء من الفروض الدالة على إلزامية التكافل باعتبارها ركنا من أركان الدين.. وتبرز أهمية الزكاة في التشريع الإسلامي من خلال العديد من المبادئ والأحكام، من أهمها حكم الزكاة في الإسلام، ومشروعيتها في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وتشديد النكير على مانعيها، وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون والسلف الصالح من بعدهم على تطبيق الزكاة، باعتبار أنها فريضة من [ ص: 111 ] فرائض الإسلام المحكمة، ولها طابع الإلزام من حيث التكليف بأدائها، وبذا ينتفي طابع الاختيار عنها. [2]

        وقد أوجبها الله سبحانه وتعالى وقرن بينها وبين الصلاة في كثير من آيات القرآن الكريم [3] ، وذلك للدلالة على قوة الاتصال بينهما، وبيان أن الدين لا يتم إلا بهما، وحسبنا استدلالا قوله تعالى: ( ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) ) (البقرة:43)، وقوله تعالى: ( ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ) ) (التوبة:103)، وقوله تعالى: ( ( والذين هـم للزكاة فاعلون ) ) (المؤمنون:4)، وقول سيدنا عيسى ، عليه السلامكما حكاه الله سبحانه وتعالى: ( ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ) ) (مريم:31).. كما ثبتت مشروعية الزكاة في السنة النبوية المطهرة في أحاديث كثيرة منها: ما ورد ( عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ... فإن هـم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ... ) [4] ، وما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلينا ) [5] [ ص: 112 ]

        وقد أكدت الوثائق والرسائل والكتب التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إخراج الزكاة من المستطيع لها، إذ ورد الأمر بإخراجها مقرونا بإقامة الصلاة تأكيدا لأهميتها، ففي كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن صنعان الأزدي ورد قوله: «إن له ما أسلم عليه من أرضه على أن يؤمن بالله لا شريك له، ويشهد أن محمدا عبده ورسوله، وعلى أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة... » [6] .

        ولسنا بصدد الكلام عن أحكام الزكاة [7] ووعائها وأنصبتها ومصارفها وغير ذلك من الأحكام الفقهية التفصيلية لأن ذلك يتطلب مجالا [ ص: 113 ] لا يستوعبه هـذا المقال الموجز، إلا أن الذي يهمنا بهذا الصدد دور هـذه الفريضة في تحقيق التكافل بين أبناء الأمة الإسلامية، وعلاج المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المستعصية التي يعاني منها المجتمع الإسلامي المعاصر، فالزكاة ركن مهم في الاقتصاد الإسلامي، ومصدر ثري للنظام المالي والاجتماعي في الإسلام، الذي كان أهم أركان الحضارة الإسلامية، التي كفل لها الاستمرارية في قيادة الحضارة الإنسانية [8] ، لذا يرتبط مفهوم الحاجات الأساسية التي تراعيها الزكاة بجميع عناصر مقاصد الشريعة الإسلامية من ضروريات وحاجيات لتحقيق الكفاية بمفهومها الإنساني الكريم بما يتلاءم مع مقتضيات الظروف والأعراف السائدة، زمانا ومكانا، وتوفير التكافل الاجتماعي بين المسلمين [9] ، من خلال إعادة توزيع الثروة وتحريكها بين المسلمين، طواعية وبقواعد موضوعية عادلة، دون حقد أو ضغينة أو تحيز، وتحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الإسلامي، كي يعيش الجميع إخوانا متحابين متكافلين لا يمسهم نصب ولا تجافي بينهم عداوة.

        وقد حرص الفقهاء على تحقيق هـذا التكافل بأروع صوره وأتم وجوهه ليشمل كل من يعيش في دولة الإسلام من مسلمين وغيرهم من الذميين [ ص: 114 ] والمستأمنين، وذلك بفرض ضريبة تكافل اجتماعي على مواطني الدول الإسلامية من غير المسلمين، وأن تكون هـذه الضريبة موازية للزكاة من حيث المورد في تحقيق التكافل الاجتماعي العام [10] ، وهذا بالنسبة إلى غير المسلم، أما بالنسبة إلى المسلم فتؤخذ منه الزكاة.

        والذي أود أن أوضحه أن الزكاة والضريبة ليست سواء [11] ، فكل منهما تعبير مالي عن واقع إنساني مختلف كل الاختلاف، فإنسان الضريبة يختلف عن إنسان الزكاة في عقيدته وأخلاقه وأهدافه، لأن الضريبة لا تحقق أهدافها لأن المتهربين منها تكون سماتهم غالبا الأنانية والكذب والتهرب من دفع الضريبة، فضلا عن لجوئهم إلى مختلف الحيل والأساليب غير المشروعة للتخلص من الضريبة أو تقليلها قدر الإمكان، باعتبار أنها غير شرعية وغير مشروعة، بل هـي برأي بعضهم ظلم؛ لأنها ثمرة عقائد مضطربة مشوشة مقلدة اختلط فيها الحق بالباطل فأنتجت في خاتمة المطاف إنسانا ماديا يبحث عن المنفذ والمنفعة واللذة، وهو أحرص الناس على حياته التي يود أن يعيشها بسعادة ورفاهية دون أدنى تضحية مالية تذكر، لذلك يتعذر على [ ص: 115 ] الدولة مهما كانت دقيقة في تطبيقها للقوانين أن تحصر الثروة، لأن الثروة بطبيعتها تتكون من جزء ظاهر وجزء خفي.

        فالظاهر المتمثل في الدخل الدوري ككشوف الرواتب والأجور أو ميزانية الشركات أو المؤسسات يمكن حصره لتحديد الضريبة، أما الجزء الخفي المتمثل في المدخرات فقد باءت جميع محاولات حصره وتحديده بالفشل؛ لأن الإنسان المادي والأناني، كما بينا، يحرص على الكذب والتهرب والنصب والاحتيال، لذا لم تجد الدولة بدا مما ليس منه بد وهو أن تكون الضريبة على الدخول وليس على رأس المال أو الثروة كلها، ولذا سميت بضريبة الدخل ، اللهم إلا في حالة واحدة يمكن فيها حصر الثروة كاملة هـي عندما يموت الإنسان حيث تظهر ثروته من أجل الميراث، أي الدخل ورأس المال والأرباح والمدخرات جميعا، وهنا فقط تتمكن الدولة من حصر وتحديد ثروته كاملة، وتفرض عليه الضريبة الأخيرة على ماله، ومع ذلك فإن هـذه الضريبة تدخل في ميزانية الدولة مباشرة ولا تخصص لمستحقي الزكاة من الفقراء والمساكين، أي لا يستفيد منها هـؤلاء مباشرة لأنها ليست مقتصرة عليهم وإنما تحقق أهدافا أخرى للميزانية وفقا للخطة المرسومة لها.

        أما الزكاة فإنها فريضة من الله على المؤمنين، الذين يتبادلون الصدق في أمور الحياة كلها ومنها الأمور المالية، وكما قال الإمام أبو عبيد الله القاسم بن سلام ، الخبير الفقهي في الأموال: فالذي يدفع الزكاة مصدق، والذي [ ص: 116 ] يحصلها من مصدق والذي يطلبها لنفسه صادق، فالصدقة الإلزامية زكاة، والزكاة صدقة، فيتفق المسمى رغم اختلاف الاسم، مصداقا لقوله تعالى: ( ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) ) (التوبة:60)، والزكاة تفرض على كل الثروة، أي على الدخل ورأس المال معا، والمسلم يخبر عن كل ثروته ويدفعها راضيا باعتبارها ركنا من أركان الدين، وهذا سر ربطها بالصلاة في أغلب آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن الصلاة، ومن ثم كانت إجراءاتها أسهل، وحصيلتها أكبر، وبركتها أعم، فالزكاة هـي بديل كامل لنظام الضريبة ، وهي تمثل شروق الحياة والشمس والنور، أما الضريبة فتمثل غروب الحياة، لذا فإن الزكاة تمثل الحركة الخيرة للمال، والبداية دائما هـي الإنسان، إنه الإنسان المؤمن، فقاعدة الزكاة الأخلاقية هـي الإيمان والصدق، والهدف الاجتماعي أخوة ورحمة ومحبة، ولأن الإنسان مؤمن فهو صادق، وغايته إرضاء الله سبحانه وتعالى تعبدا ورفعا لمعاناة الكثير الاجتماعية والنفسية.

        أما البعد الاقتصادي فإنه على رأي من يرجح مبدأ الإباحة في أموال الزكاة، فإنه يجوز لولي الأمر أو للقائمين على بيت المال أو صناديق الزكاة أو الجمعيات الخيرية المعنية بأمر جمع الزكوات وتوزيعها، توظيف أموال الزكاة التوظيفات التي يراعي فيها مصلحة المستحق، خاصة إذا كان [ ص: 117 ] المستحق لا يستطيع أن يستثمرها بنفسه، وهذا غالب ما يحصل، إذ أن طبيعة المستحق طبيعة استهلاكية، ولأن الهدف من الزكاة إغناء المستحق لا سد حاجته فقط، حتى توجه أموال الزكاة إلى المستحقين غيره، وهذا الهدف قد لا يحرص عليه الكثير من القائمين على شئون الزكاة في المجتمع الإسلامي، إذ يعمدون إلى تخصيص رواتب شهرية للمستحقين، وكأن الزكاة هـي سد حاجة المستحق لفترة زمنية محددة، علما بأن الفقهاء ركزوا في حديثهم عند توضيح أحكام الزكاة على مسألة الإغناء وليس مسألة سد الحاجة، والإغناء مسألة نسبية تختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، إذ المفروض أن تحول أموال الزكاة المستحق إلى منتج لا أن يبقى مستهلكا دائما، فيتحول المستحق إلى معطي لا إلى آخذ، وفي هـذا تضييق لدائرة الفقر وتقليل لعدد المستحقين، مما يترتب عليه زيادة نصيب المستحق من أموال الزكاة، فينحصر من يأخذ من الزكاة في غير القادرين على الكسب أو العمل، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي ) [12] .

        ويمكن تحقيق هـذا الهدف عن طريق توزيع جزء من أموال الزكاة لسد الحاجات الضرورية للمستحقين وتحويل الباقي إلى مصادر ووسائل للإنتاج، توظف في مجال التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو الخدمات الأخرى، وتخصص ثمرة هـذه المصادر مع الأصل لصالح المستحقين.. وتسهيلا للقائمين على أمر الزكاة، يعمد هـؤلاء إلى حصر المستحقين وترتيب أولوياتهم [ ص: 118 ] وحاجتهم، فيخصص مبلغ محدد لسد حاجات هـؤلاء المستحقين لمدة يتوقع معها أن تبدأ المشاريع بالإنتاج وإعطاء العائد المؤمل، على أن تكون الأولوية في العمل في هـذه المشاريع للقادرين على العمل من المستحقين حسب قدراتهم وإمكانياتهم، وعندها يصبح العامل هـنا من الأسر الفقيرة المستحقة منتجا فيسقط حقه في أموال الزكاة؛ لأنه أصبح غير محتاج، وبهذا تزيد حصة غير القادرين على العمل.. وأثبت الواقع العملي نجاح هـذه التجربة في أكثر من مكان في المجتمع الإسلامي.

        لذلك اقتضت المصلحة القول برجحان الإباحة لتحقيق مصلحة المستحقين من الفقراء والمساكين، ولأن تصرف الإمام أو ولي الأمر أو القائمين على شئون الزكاة منوط بالمصلحة، وفي الوقت الحاضر تغيرت حاجيات الأفراد وضرورياتهم وأولياتهم، وأصبح من الواجب مراعاة هـذه الأمور، ولا يتحقق ذلك إلا بالتشغيل الأمثل للموارد الاقتصادية الرئيسية، ومنها أموال الزكاة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية