1- طبيعة الأمة والدولة في الفعل الحضاري:
ترتبط الوظيفة الحضارية عموما بالدولة، لكن من يقوم بها بداية هو الأمة، ثم تشاركها فيها الدولة في فترة معينة. وما يبدو مهما هو ألا يحدث تناقض بين الطرفين، وإذا تم ذلك فعلا فسيكون على حساب التطور الحضاري نفسه. ومن المفيد التعرف على هذين الجانبين بصورة تفصيلية.
الجانب الأول: الأمة كمبدع للحضارة:
لابد من التأكيد أن الفعل الحضاري هو الوظيفة الأساسية للأمة، صحيح أن دورها يبرز في العديد من المجالات، لكنه أكثر ما يكون وضوحا في الانتقال من البداوة إلى العمران والمدنية، من منطلق أن تحقيق ذلك هو مسؤوليتها الأساسية. وهي بهذا التحديد الفيصل في أعمال العمران، إنها تمثل دائما الإرادة، التي تقع عليها عملية إنجاز المهمة الكبرى. فهي تنشئ [ ص: 60 ] المؤسسات العلمية والتربوية، التي يبرز فيها المفكرون، وتحتضن العلماء ليقوموا بدورهم التاريخي ويتحملون مسؤوليتهم الحضارية. إن فاعلية الأمة تبدو في مراحل معينة، ولولا قوتها الذاتية فإن الدولة لن تتمكن من فعل شيء في هذا الخصوص
[1] .
وإذا عدنا إلى المسارات الحضارية الطويلة، التي قطعتها الأمم، فإننا نرصد جهودا نوعية ومفصلية، بلورت صورة الإنجازات العظيمة، وقد تحددت عبر تراكم اللحظات المضيئة في حياتها، ومن مجموعها تشكلت الحالة الكلية للحضارة. ويكفي أن نشير هنا وبصورة سريعة إلى الحضارتين العربية الإسلامية والأوروبية الغربية.
ففي الحضارة الإسلامية نلمس التراكم الكبير في مسارات متعددة، فإلى جانب التراكم العلمي المعرفي، نرى التراكم السياسي والعسكري، وهكذا. والمتتبع للمسار الأول من فترة الوحي إلى فترة جمع القرآن، وصولا إلى مصحف سيدنا عثمان، رضي الله عنه، إلى فترة اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية، ثم جمع الحديث وعلومه وتقنين الفقه وأصوله، ثم فترة الترجمة، وصولا إلى فترة تبني المنهج العلمي، يلحظ دور الأمة في تحقيق درجة رفيعة من التقدم والازدهار. [ ص: 61 ]
ولا يختلف الأمر فيما يتعلق بالحضارة الغربية، فقد ظلت المعارف العلمية تتراكم منذ زمن بعيد، حيث حدث تغير كيفي باكتشاف المنهج العلمي بفضل مفكرين مثل "ديكارت Descartes" و"بيكون Bacon" و"سبينوزا Spinoza" في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وظهور العلوم الطبيعية الحديثة. ولم تكن السيطرة على الطبيعة، التي وفرتها تلك العلوم متاحة للمجتمعات كافة، فقد تم ابتكارها عند نقطة تاريخية معينة بفضل بعض الأوروبيين، غير أن المنهج العلمي أصبح بعد فترة شائعا بين الناس، وفي متناول الجميع بغض النظر عن اختلاف القوميات والثقافات [2] .
الجانب الثاني: الدولة كأحد مظاهر التطور الحضاري:
إن المتتبع لنشأة الدولة سيلاحظ أن ظهورها هو في الغالب تعبير عن لحظة مهمة في حياة الأمة. بمعنى أنه عندما أصاب الأخيرة التطور وجدت نفسها تتشكل في دولة. ويربط بعض المفكرين مثل "كوردن تشايلد Gordon Childe" و"كارل فيتفوكل Karl wittfogel" نشوء الدولة بالأنشطة الزراعية لدى المجتمعات البشرية وإدارة أنظمة الري. وفي بلاد الشرق القديم، على سبيل المثال، كان لنشأة المراكز الحضارية وارتباطها بشبكة من الطرق أثره البالغ في نشوء الدول
[3] . [ ص: 62 ]
وبذلك يمكن تحديد طبيعة الدولة باعتبارها تعبيرا عن تجليات حضارية معينة في المكان والزمان، لتكون إطارا حاضنا لحضارة الأمة. وفي السياق نفسه تصبح مهمتها، وفقا لأفكار "أرسطو Aristotle" ومن بعده "جون لوك John Locke"، توفير حياة طبيعية للمواطنين تمكنهم من صيانة منجزاتهم. فقد أكد الأخير أنه لابد من إقامة جهاز عام للحكم حتى يمكن التمتع بالحقوق الأساسية، كحق الحياة وحق الحرية. ويبدو أن هذا التصور أصبح يمثل اتجاها حديثا عاما. أشار إلى ذلك "هارولد لاسكي Harold Lasky" عندما لاحظ أن هناك إقرارا عاما بين الفلاسفة، باستثناء الفوضويين، بضرورة وجود جهاز عام في المجتمع يحدد شروط تطور الحياة وضوابطها. أما "توماس هوبز Thomas Hobbes" فقد رأى أنه لن تستمر أية حضارة ما لم تعط ضمانات كافية من جانب الدولة [4] .