3- التفوق الحضاري:
سرعان ما تظهر هذه الإشكالية عندما تستوعب حضارة ما الحضارات الأخرى التي تصل إليها، وتتحرك في التعامل معها باعتبارها الأرقى. إن مثل هذا الأمر يتم وفقا لقانون ملء الفراغ. فهو يقضي بحلول الأقوى مكان الأضعف، أي أن حضارة ما بما بلغته من تفوق تعمل بقوانينها ومعطياتها الداخلية على سد الفراغ الناجم عن قصور أو ضعف غيرها من الحضارات الأخرى [1] . ويقدم لنا التاريخ العديد من الأمثلة على ذلك، من بينها وضع الحضارة الرومانية وحضارات الشرق الأدنى القديمة.
فرغم احتفاظ الثانية بخصوصيتها أثناء التداخل القوي مع الأولى، الذي بدا في التمسك بمعتقداتـها ولغاتـها المحلية، إلا أن السيادة ظلت طيلـة فترة ازدهار الإمبراطورية الرومانية لحضارتها المتفوقة في إطار ما بات يعرف بـ"السلام الروماني". لقـد أصبحـت الحضـارة الرومانية بمثابة حضارة [ ص: 77 ] وطنية للشعوب، التي خضعت لروما، تشهد على ذلك آثار المدن الرومانية في مختلف مناطق الإمبراطورية، وكذلك آثار مدرجاتهم وملاعبهم والطرق التي شقوها [2] .
ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية، فقد أضحت في فترة وجيزة ليس فقط الحضارة الأرقى بل والأكثر انتشارا. ولذلك شهدت العصور الوسطى تفوقها وازدهارها، وتأثيرها العظيم في الشرق والغرب واستمراره العدة قرون. أما الحضارات الأخرى فلم تكن تملك مقومات الاستمرار والتطور.
ويزداد الأمر وضوحا بالنسبة للحضارة الغربية، فقد تميزت بخصائص في مقدمتها ارتكازها على التراث الكلاسيكي، لليونان والرومان، والمسيحية الغربية، والكاثوليكية البروتستانتية دون الأرثوذوكسية، واللغات الأوروبية [3] ، ثم الفصل بين الدين والدولة، والنزعة الفردية والتعددية السياسية وغيرها. ويرى الغربيون أن احتكاك الشعوب غير الغربية بهذا التراث كان احتكاكا عقيما وغير خلاق، ولم يحفز قوى النهوض والتطور فيها [4] ، مما يعني غياب الثقة فيما بينها. [ ص: 78 ]