سابعا: المستثنيات الشرعية:
وهي التي تجري على خلاف الأصول والقواعد العامة في استخراج الأحكام الجزئية لاعتبارات شرعية رجحت الاستثناء وعدلت عن الأصل.
وترد المستثنيات في أصول الفقه أو أصول الأحكام ،كما هو الشأن في الاستحسان الذي يعد استثناء من القياس الجلي، أو استثناء من الدليل الكلي لمصلحة جزئية راجحة، أو استثناء من مقتضى العموم لموجب خصوص لأمر مشروع راجح، وكما هو الشأن في الاستثناء في الأحوال والأشخاص والأحكام والأدلة والمقاصد والعلل والقرائن وتصاريف الشريعة...
كما ترد المستثـنيات في القـواعد الفقهية من خلال استثناء شواهـد أو صور أو حالات لا تكون فروعا تابعة للقـاعدة ومنـدرجة فيها، وإنما تلحق بقواعد أخرى وتتفرع عن قوالب أخرى. ومن أمثلتها: استثناء معاقبة الجاني من عموم قاعدة (الضرر يزال)، إذ لا بد أن يسـلط الضرر والإيلام على الجاني لمصلحة المجني عليه وأهله وحفظ الحقوق والأمن وتحقيق الردع والزجر.
كما ترد من خلال استثناء صيغ وقوالب تكون بمثابة القواعـد، التي تستثنى من قواعد أخرى أكبر وأعم وأجمع، كقاعـدة (لا عبرة للعرف [ ص: 34 ] الطارئ) المستثناة من قاعدة (المعروف عرفا كالمشروط شرطا) ومن قاعدة (العادة محكمة)، والمستند في الاستثناء هو عدم الاعتبار بالأعراف الطارئة والحادثة والعارضة، إذ لا عبرة إلا بالعرف الموجود والمطرد والمعمول به والسابق لقضايا النـزاع والحوادث الواقعة والمستجدة، هذا فضلا عن الشروط الأخرى لاعتبار العرف والعمل به.
كما ترد المستثنيات في المقاصد الشرعية كاستثناء المصالح الملغاة من عموم المقاصد المشروعة، لرجحان شرعي معتبر وأصيل، إذ المصالح الملغاة في الميزان الشرعي الصحيح وفي المعيار المصلحي الأصيل، هي مجرد منافع مطروحة لا تمت بصلة لحقيقة المصالح وكنهها وجوهرها، إما لكونها مصالح سطحية وشكلية، أو لكونها مصالح ضيقة ومحدودة ومنحسرة في مقابل تفويت مصالح أوسع وأشمل وأعم، وإما لكونها مصالح مؤقتة ومجزأة ومهزوزة ومضطربة في مقابل تضييع مصالح أدوم وأجمع وأضبط وأسلم.
ومن أمثلة ذلك: مصلحة الاحتكار العالمي والعولمة الاقتصادية الحاوية لمنافع ملغاة في نظر الشرع ومقاصده الحقيقية، إذ هذه المنافع تأتي على حساب الاستثمار المالي والحضاري العالمي، وعلى حساب تكافؤ فرص التنمية والعدالة بين الشعوب والأمم وتحقيق التوازن الغذائي والأمن الاقتصادي والسلم الاجتماعي. وهذه المنافع لا تحقق سوى مطامع الاحتكاريين الابتزازيين (أفرادا وشركات ودولا ومنظمات إقليمية ودولية). [ ص: 35 ]
كما ترد المستثنيات في عموم الأحوال والأشخاص والبيئات والحضارات وفي عدة مدركات ومظان دليلية وشرعية ولغوية وسياقية وواقعية. ويتجدد هذا الاستثناء بورود موجباته وانتفاء موانعه وتخلف قوادحه ومجمل مؤيداته ومحدداته وفق مسلكية الفهم والتنـزيل والترجيح المعروفة والمضبوطة.
وعلى العموم، فإن عملية الاستثناء الشرعية حقيقة إسلامية دقيقة جدا أقرها الشرع في منظومته، ودعت إليها الحياة في حركتها وأحوالها، وجسدها العلماء والمجتهدون والمحققون في أعمالهم المختلفة وأنظارهم المتنوعة، وهي علم عميق وصراط رقيق تبتلى فيه الخواص، وتمحص فيه النفوس، وتزل فيه أقدام كثيرة إلا من وفقه الباري وأيده وثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وتتصل المستثنيات الشرعية بالأحكام الجزئية اتصال الاستثناء من الأصل، من جهة إخراج الفرع المستثنى من الأصل، أو إخراج حالة معينة من الحكم الجزئي، أو إخراج شخص معين من حكم جزئي أو فتوى جزئية أو صورة جزئية.
والمتفقه الذي لا يدرك المستثنى كأمثلة وصور وفروع، والذي لا يدرك الاستثناء كحقيقة معرفية ومسلكية منهجية وفن شرعي دال على ذاته ومتصل بغيره [1] ، فهذا المتفقه بهذا (الجهل الاستثنائي) لا يمكنه أن يكون [ ص: 36 ] متفقها ولا حتى مشتما لرائحة التفقه، لوقوعه في دائرة من الخلط العجيب بين المتشابهات، ومن التسوية بين المختلفات والتفرقة بين المتماثلات، وهذا عين الضلال والبعد عن الدين ومدلوله ومقصوده، وهو عين الضيق في عالم النظر ودنيا الأثر.
ومثال ( القول الحسن, ملازمته الرفق بالآخر) ينطبق عليه قانون المستثنيات الشرعية, من جهة ضبط الصور والأحوال التي لا يتبع فيها القول الحسن ولا يلازم فيها الرفق، كصورة إيلام الجاني والتشديد عليه جسديا ونفسيا، وكصورة اعتماد غلظة القول مع المتهاون في واجباته ومسؤولياته من الأبناء والتلاميذ والمواطنين والوافدين، وكصورة الشدة على المحتل الغازي والساحر المفسد والمحارب والمروع والمخرب والمضلل.
واستـثناء هـذه الصـور وارد وثابـت بموارده ومقاصده وقواعده، وهو مضبـوط بمعـاييره ومحتوم بموازينه وكل هذا يقرره أهل التحقيق وأصحاب النظر والتدقيق بحسب معطياته وملابساته ومحدداته ومجالاته. ولذلك تناط بالصور المستثـناة ضـوابط وروابـط تجعلها مـؤداة على منهج قويم، لا إفراط فيه ولا تفريط ولا مبالغة فيه ولا تفويت، إذ إن إيلام الجاني ومواجهة المحتل مضبوط بعدم التعدي ومنع البغي ودفع التهاون والتقصير ومراعاة كل شيء بحسبه ونسبته وجهته وسمته ورسمه وحقيقته, والله الهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 37 ]