الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

- تدويل ظاهرة الإرهاب:

والأخطر اليوم محـاولات تدويل ظـواهر الإرهـاب، وعولمته، وزراعته في كل أنحاء المعمورة لإعلان حرب عالمية جديدة، والخروج به عن أسبابه ليشكل مسوغ تدخل وإعادة استعمار للعالم بشكل عام والعالم الإسلامي بشـكل خـاص، بشعارات جديدة. لذلك فالمواجهة حالة مستمرة، والجهاد ماض، والإسـلام هو الـدرع الواقية للأمة من الذوبان، والقوة الدافعة للتحرر، فالثورات والحركات والمقاومات كانت جميعها تحتمي بالإسلام، وتنطلق منه، وكان الجهاد هو النسـغ الممتد الذي يهب الأمة الحياة؛ ضمن ولا يزال يضمن لها الاستمـرار، ويحقـق لها الصمـود، ويمـدها بالطـاقات الهائـلة في المواجهة والدفاع، كما يمدها بالمشروعية والدافعية للاستشهاد.

فالجهاد كان الروح التي حالت دون استقرار الاستعمار بالعالم الإسلامي، لذلك كان أول ما يتوجه إليه ويركز عليه الاستعمار والهيمنة من جديد هو تشويه مفهوم الجهاد، في محاولة لاغتيال وتشويه ثقافة الأمة، وإطفـاء فاعليتها، ومن ثم تدجينها والسيطرة عليها، أو احتوائها على أقل [ ص: 138 ] تقـدير، وإيجاد طـابور خـامس من المثقفين، الذين يمارسون العمالة الثقـافية في بلاد المسـلمين، ويشكلون سوقا رائجة للعمـالة السيـاسية، ولا يعدم الأمر وجـود بعض فقهاء السلطان، الذين يجهزون الفتاوى اللازمـة، ويمـارسون بذلك التـدليس والتضـليـل والترويض المطلوب.. كما لا يعدم وجود بعض الفهوم المعوجة والتفسيرات الخاطئة لقيم الدين، التي قد تقود أصحابها لممارسات شاذة تشد على يد العدو وتوجد له المسوغ.. لكن الثابت تاريخيا أن هذا الدين ينفي عنه الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد.

والحقيقة أن تاريخ الاستعمار بأشكاله وألوانه، من انتداب إلى نظام الوصاية، حيث العالم الإسلامي دون سن الرشد وهو بحاجة إلى الأوصياء وانتداب الراشدين ليدبروا شأنه، إلى الاحتلال إلى الاستعمار الاستيطاني، كان السبب الرئيس وراء تخلف العالم الإسلامي واضطرابه وتفرقه إلى فرق ومذاهب وشيع وطوائف، غذاها المستعمر لتصبح ألغاما موقوتة قابلة للانفجار في كل حين يريده من يمسكون بالفتيل؛ فقابلية العنف والتطرف والحروب الطائفية والمذهبية والعرقية والتعصبية في أساسها إنما تعتبر من زراعة المستعمر وصناعته وتجارته، حتى لقد وصل الأمر إلى أخطر درجات الاحتواء والاختراق، وذلك بامتلاك القدرة على توظيف الجهاد والمقاومة والاستعداد للتضحية لتصبح محلا لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدماء [ ص: 139 ] المجاهدين المسلمين؛ لكن بعد استنفاد الغرض وتحقيق الهدف يتحول الجهاد والمجاهدون ليصبحوا متطرفين متشددين خطرين على العالم كله(!) هذا عدا عن الجهود الثقافية والسياسية والإعلامية والاقتصادية لتشويه معنى الجهاد ودمغه بالتطرف والإرهاب والعنف، والتخويف من مجرد طرحه.

ولم يقتصر الأمر على مطاردة ومحاصرة المجاهدين والمقاومين، على المستوى العالمي، والإغراء بهم، ووصمهم بأبشع النعوت، ورسم صور مشوهة لفعلهم، والتشكيك بنواياهم، ولا ننكر هنا بأن أعداء الجهاد استطاعوا أن يخترقوا دفاعات المسلمين، ويصنعوا بداخلها الكثير من الصور المشوهة والممارسات غير المشروعة، ليكون ذلك مسوغا لهجمـتهم، نقول: لم يقتصر الأمر على مطاردة المجاهدين أينما كانوا، وتشويه صورتهم، وإعلان الحرب عليهم، وإنما تجاوز الأمر، تحت مسمى محاربة الإرهاب، إلى التعدي على مناهج التعليم والتربية والإعلام ومؤسسات العمل الخيري، بدعوة تجفيف منابع العنف والتطرف والإرهاب، وكان في مقدمة ذلك محاولة اقتلاع قيم الجهاد، وإسقاط آياته وأحاديثه وبحوثه ودروسه وكل ما يتصل به على مستوى التعليم والإعلام والثقافة، والامتداد بعد ذلك إلى مؤسسات العمل الخيري، واتهامها كلها بتغذية الإرهاب والتطرف ومحاصرة رسالتها، ومطاردة القائمين عليها. [ ص: 140 ]

وليـس ذلك فقط، وإنـما تجـاوز الأمر إلى اتـهـام الإسـلام ورسوله صلى الله عليه وسلم وتاريخـه بالتـطرف والإرهـاب، وأنه منبـع الإرهـاب ومصنعه، ولعـل فـلتات الفـم -كما أسلفنا- ( قد بدت البغضاء من أفواههم ) (آل عمران:118)،كانت الدليل والشاهد النظري، إلى جانب الممارسة العملية؛ فلو كان الإرهاب والعنف هو المستهدف وكانت النوايا صحيحـة لكان الأمر يعني تشجيع مناهج الاعتدال، والتأكيد على القيم الإنسانية، وإبراز صور التسامح والتعايش في الحضارة الإسلامية، بل نقول: لو كانت النوايا صحيحة وصادقة لسعوا إلى تأصيل وتأسيس القيم الإسلامية، لأنها وحدها الكفيلة بمحاصرة الإرهاب وتهميشه وإلغائه، ولأفسحوا المجال للعلماء العدول، الذين يناط بهم حمل قيم الدين الصحيحة ونفي التحريف والتأويل والمغالاة: ( يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين ) [1] ، لكن المشكلة أن الإسلام هو [ ص: 167 ] المستهدف، وهو العدو البديل، لذلك كانت المواجهات والصدامات والمجاهدات والمقاومات، التي تهب للدفاع عن القيم الإسلامية، سواء أصابت في فعلها أم أخطأت الوسيلة؛ وكان الاحتلال والاستعمار، بكل تاريخه، هـو السبب الرئيـس بل هـو سبب الأسباب جميعا وراء كل ما يمكن أن يكون من مواجهات ومصادمات وممارسات ومجاهدات وثورات تحرير، من حيث المبدأ. [ ص: 141 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية