الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

- حضارة المعرفة:

لذلك يمكن القول: إن حضارة الإسلام وفلسفته إنما تمحورت حول المعرفة، وانطلقت منها، فكان أول ما نزل من الوحي: ( اقرأ ) ولم تنـزل آية السيف ولا المواجهة إلا عند تعرض المجتمع الإسلامي إلى العدوان، وشرعت آية السيف لرد العدوان، ذلك أن المعرفة هي القوة الحقيقـية، هي القوة المرنة، [ ص: 165 ] التي ترقى بعقل الإنسان وتبني إرادته، وتصوب منطقه، وتحفظ كرامته ومكانته.. والقراءة والإقراء والعلم والتعلم هي مساحة المجاهدة الحقيقية والجهاد الأكبر.

فالأمة المسلمة لم تخرج للناس من خلال الجـغرافيا أو اللون أو الجنس أو الطبقة، وإنما أخرجت وتشكلت من ذلك جميعه، تشكلت من خلال ، ( اقرأ ) من خلال المعرفة المتاحة للناس جميعا، وهي الأمة الوحيدة، حضاريا وتاريخيا، التي تشكلت من خلال كتاب، وامتدت وتوسعت من خلال الفكرة، واستقطبت كل أنواع الجنس البشري، بكل جغرافيته وألوانه وأوضـاعـه الاجتـمـاعية، فجـاءت حضـارة إنسـانية، لكل جنس أو لون أو جغرافيا فيها نصيب.

فهي حضارة المشترك الإنساني، والتكامل الإنساني، والتعايش الإنسـاني ( لتعارفوا ) ، ونبوتها الخاتمـة تمثل المشـترك النبوي، أو مشترك النبوة تاريخيا، حيث اعترفت بالنبوات السابقة، وإليها انتهت أصولها، وهي التي كملت البناء النبوي ليغدو مشتركا إنسانيا تاريخيا، وكان من آخر ما نزل من الوحي ( اليوم أكملت لكم دينكم ) (المائدة:3) فالإكمال والاكتمال إنما هو للدين الذي بدأ بآدم، ومر بالأنبياء جميعا، وانتهى إلى الإسلام، يقول الرسـول صلى الله عليه وسلم : ( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به [ ص: 166 ] ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) [1] .

فهي نبوة المشترك الإنساني، والمشترك النبوي، والمشترك الحضاري، لذلك فإن رسالتها الأولى البلاغ المبين، وإلحاق الرحمة بالعالمين، ومجاهدتها دفع للظلم والعدوان والحيلولة دون القمع والقهر والعنف والاضطهاد: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) (الأنفال:39)؛ لأن إلغـاء إرادة الاختيار وانتقاص إنسانية الإنسان وإلغائه وإكراهه أشد عليه من القتل ( والفتنة أكبر من القتل ) (البقرة:217).

لذلك نقـول: إن مـن الأمور الخـطـيـرة الـيـوم تشـويه أهداف الجهاد ومعانيه، وممارسة الخلط والتدليس المتعمد بين مفهوم الجهاد ومفهوم الإرهـاب والـعـنـف والتـطـرف؛ والجهـاد إنما شـرع لمعالجة ذلك والحيلولة دون وقوعه.

إن محـاولة إلغاء الجهاد من مؤسسـات التعليم والثقافة والإعلام والمناهج بحجـة تجفيف منـابـع الإرهـاب، دون تشجيع أو تقديم للبديل المعـتدل، أو تصويب بعض الجنوح الواقع أو المتوقع؛ هو مساهمة في تأجيج الإرهـاب وتشجيعـه؛ فـالأمر الذي لم يعد خافيا أن الإسـلام هو [ ص: 167 ] المستهدف وليس الإرهـاب والعنف والتطرف، ورب ضارة نافعة، حيث ساهم ويساهم ذلك بيقظة الأمة، وإبصار أعدائها، والاستمساك بقيمها، ومدافعة خصومها.

والجهاد هو إحدى وسائل تربية الأمة، والارتقاء بها، وضبط مسارها، وليس أمرا منفلتا، ولا حركة قوة عمياء باطشة لا تميز، وإنما للجهاد آداب وأحـكام وأهداف لا بد من الالتزام بها، وهو عبادة من أعلى العبادات، فهو رأس سنام الإسلام.

لذلك فوقوع بعض الجنـوح أو الخطأ في ميـادين المعركة، أو حصول حالات استثنائية، أو التعسف في استعمال بعض الحقوق والممارسات وتطبيق الأحكام، لا تغير من حقيقة الجهاد شيئا، ولا تقود إلى العمل على إلغـاء الجهـاد، وإنـمـا إلى تـصـويب ممارساتـه؛ لأن الغـاية لا تبرر الوسيـلـة في شريعة الإسلام؛ وفي ضوء ذلك كله يمكن القول: إن الجهاد فعل حضاري إنساني وليس عملا إرهابيا عنيفا؛ وإن امتطاء بعض أصحاب الفقه القليل والرؤى القاصرة والمتحمسين لخيول الجهاد وإعلان أنفسهم أمراء للجهاد، يمارسون تكفير المسلمين، بسبب بعض الأخطاء والخطايا، ويسقطون عليهم أحكام آيات الكفار والمنافقين، ويعبثون بالأرواح والأموال والأمن، ويروعون المجتمعات، ويقتلون بدون تمييز، ويستبيحون دماء الأولاد والنساء وما إلى ذلك، ويسقطون الأحكام الشرعية على المجتمعات، [ ص: 168 ] ووصمها بأنها دار حرب أو دار جاهلية، وما إلى ذلك، ليسوغوا فعلتهم، فهذا تشويه لحقيقة الجهاد، وعبث بأحكامه ومفهومه وآدابه ومقاصده، قد يكون لأعداء الإسلام نصيب في صناعة ذلك، حتى ولو سقط في فخاخهم بعض بسطاء المسلمين.

ويبقى أن نشير إلى أن الأصل في الإسلام تحقيق السلم والأمن للإنسان والمجتمع، وأن الإذن بالقتال، وهو استثناء، يقول تعالى: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) (الحج:39) إنـما شرع دفعا للاعتداء، ورفعا للظلم، وحماية للأمن، وتحقيقا لحرية الاختيار، ودرءا للفتنة، وأن وسيلته في خطاب (الآخر) الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن اعتماد المعرفة وتحقيق الاقتناع هو وسيلة هذا الدين وميدان مجاهداته، وأن أداته وسلاحه القلم، فهو المحراث الحضاري لبناء الحضارة الإنسانية.

فالإسلام دين السلام، والدخول في السلم والسلام وتوفير الأمن والأمان واستبدال الحوار بالمواجهة هو منهج دعوة الإسلام، وهذا ليس خيارا في الإسلام وإنما هو دين من الدين، واستجابة لأمر الله، تعالى بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) (البقرة:208).. فالسلم والسلام والأمان من خصائص المؤمنين وأوامر الرحمن، والعدول عنه سقوط [ ص: 169 ] في طريق ومنهج الشيطان ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) (النور:63).

حتى إذا اضطر المسلمون لدخول القتال بشروطه وأحكامه المعروفة في مظانها من كتب الفقه، وبعد دخول المعركة رغب عدوهم في الهدنة وإيقاف القتال، فما على المسلمين إلا أن يستجيبوا لأمر الله: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) (الأنفال:61)، حتى ولو كان النصر وشيكا والغلبة تلوح في أفق المعركة، فحالة السلم كانت ولا تزال هي المناخ الملائم للدعـوة، لأن وسيـلـتـها الحجـة والبرهـان، وليس القوة والقهر والحسام، ولـم يكن في العنف خير في كل الظروف والأحوال، والله يعطي على اللين ما لا يعطي على الشدة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.... ) [2] ، والاستـقراء يؤكد أن الإسـلام انتشر في كل العالم تقريبا ولا يزال، على الرغم من ضعف وتأخر المسلمين، بالحجة والدعوة والسلم وليس بالفتح والقتال والحرب.

ونستطيع القول بكل اطمئنان: بأن توفير الأمن والسلام والأمان هي من مقاصد الدين، والمناخ الملائم لامتداد الإسلام، فالله سبحانه وتعالى سمى صلح الحديبية (الفتح المبين)، وأن فاعلية وسائل وأدوات مناخ السلم والحرية [ ص: 170 ] وسلاحها الحجة هو الأقوى والأمضى مما تحمله فترات المواجهة والسلاح، التي قد يحملنا عليها أعداء الإسلام، فبالحسابات البشرية البسيطة والاستقراء التاريخي ندرك أنهم هم الأملك للقوة والجبروت ونحن الأملك للحجـة والعـدالة، لـذلك فإن الخـير دائـما في أن يكفي الله المؤمنين القتال، المكروه إسلاميا، يقول تعالى: ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال ) (الأحزاب:25)، ويقول: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) (البقرة:216).

فالسـلام والأمـن، سـواء في ذلك الأمـن السـياسـي أو الاجتماعي، هما من أجل النعم في الإسلام، حيث امتن الله على قريش، القاعدة البشرية لنـزول الإسلام، بقوله: ( فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) (قريش:3-4)، فالأمن والسلم وانحسار العنف والترويع والإرهاب والإرعاب من أهم سمـات المجتمـع المتحضر، أو إن شئت فقل هما معيار الحضارة من بعض الوجوه، بل من كل الوجوه.

واللافـت حـقـا أن قبلة المسـلمين (وجهتهم) سميت البيت الحرام، وهي التي يتجهون إليها كل يوم خمس مرات، ويحجون إليها مرة في العمر على الأقل، ويعتمرون كلما أتيحت لهم الفرصة، وهي بكل أوصافها ومواصفاتها وأحكامها واحة للسلم والأمن، يقول تعالى بشأنها: ( ومن دخله كان آمنا ) (آل عمران:97)، فالقتال والاعتداء وقطع الشجر وعقر الحيوان [ ص: 171 ] وصيده كلها محظورات في الحرم.. هذه المعاني الكبيرة يعيشها الحاج والمعتمر، حيث يمثل الحج فترة تدريب على السلم والأمن، وتصويب للمسيرة، وانخلاع من الأخطاء، والعزيمة على عدم العود، حيث يدخل الإنسان بهذا النسك التدريب في قضاء فترة سلم مع النفس والبيئة والمجتمع وجميع المخلوقات، ليشكل ذلك أنموذجا يسترد معانيه كلما توجه للحرم في صلاته يوميا، من طلوع الفجر إلى غسق الليل.

وليس ذلك فقط، فلقد عرف العرب قبل الإسلام، وهم مادة الإسلام وقاعدته الأولى التي حملته للناس، أربعة أشهر تسمى عندهم الأشهر الحرم، تشكل ثلث السنة، تعتبر فترة هدنة وسـلام مقـدس لا يجوز انتهـاكها، ولما نزل الإسـلام أكد هذه الحرم وأقرها، قال تعالى: ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ) (التوبة:36)، ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) (البقرة:217).

فالسـلام وعدم العنف والمواجهـة هـو الأصـل، والمواجهـة والعنف هي الاستثناء، ولا تباح إلا لرد العدوان ومدافعة الظلم.. والاستقراء التاريخي، وقراءة الحاضرة تؤكد أن الأمة المسـلمة والحضـارة الإسلامية تاريخيا كانت ولا تزال محـل استـهداف وعدوان واستعمار، وأن الأمة المسلمة استطاعت أن تشكل من المدافعة بقيم الإسلام قوة مانعة من السقوط والذوبان، ودافعة [ ص: 172 ] للنهوض والتجاوز لحالات الوهن والإنهاك، حتى أن القيم الحضارية الإسلامية استـطاعت أن تـقلـب المعـادلـة أو المسلمة الحضارية القائلة: بأن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب؛ أما في تاريخ الحضارة الإسلامية فكانت حضارة المغلوب وقيمه أقوى من سواعد الغالب وقوته، فتحول الغالب ليؤمن بقيم المغلوب وينشرها.

التالي السابق


الخدمات العلمية