الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
- سبل المعالجة على مستوى المضمون المعرفي العام:

ويراد بالمضمون المعرفي العام محتوى علوم الكون والحياة والإنسان (كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم الاقتصاد وعلم الإدارة وعلم البيئة...).

ويحتاج إلى هذه العلوم - بتفاوت - في مراتب الاحتياج، ويلتفت إليها بأقدار مختلفة لإعمال المضمون الفقهي فهما وتنـزيلا، ويتحدد ذلك بالمنهجية المعروفة في الإفادة من هذه العلوم على مستوى أداء التكليف الشرعي الإسلامي. [ ص: 77 ]

ولعل من قبيل ذلك جزئيا وتمثيليا:

- الالتفات إلى علم التاريخ في فهم الوقائع والاعتبار بالقصص ومعرفة الملابسات والظروف لضبط مسار الحوادث وتطورها.

- الالتفات إلى العلوم الإنسانية وفهم أحوال النفس والمجتمع بموجبها، باعتبار كون هذه الأحوال معدودة من قبيل شروط النظر والاجتهاد واستنباط الأحكام، إذ نص العلماء على أن معرفة الواقع والعلم بأحوال العصر يعد شرطا من شروط الاجتهاد، ويضاف إلى هذا الشرط الشروط المقررة الأخرى كشرط معرفة النص ومعلوماته ومدلولاته ومعرفة المقاصد والمآلات، وغير ذلك.

فيكون الالتفات إلى هذه العلوم عونا وإسهاما، أو شرطا مكملا لمعرفة المضمون الفقهي الشرعي ولحسن تنـزيله في أرض الواقع.

وحري بالقول: إن مراتب العناية بالمضمون المعرفي العام ( الكوني والحياتي والإنساني) تتحدد بحسب حاجيات المؤسسات الفقهية، وطبيعة الموضوعات الفقهية المدروسة ومدى عمقها وتلبسها بهذه العلوم، وبحسب البيئات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي تظهر فيها هذه الموضوعات وتنشأ فيها النوازل والحوادث المدروسة والمعالجة.

وقـد تسـهم هـذه المعـارف (الشرعية والكونية والحياتية والإنسانية) في تحقيق البناء العقلي والمعرفي المتوازن والمتكامل والمتفهم والواعي بحاله [ ص: 78 ] ومآله، بذاته وبغيره، مما يستبعد معه العنف ويستقبح فيه المنهج الموصوف بكونه أحادي الجانب ومبتور النتائج ومقطوع التعامل ومهزوز الحقائق والمعاني والمقاصد.

وربما يكون من المفيد، على مستوى هذه المضمون المعرفي، اقتراح بعض المفردات العلمية التي تصلح لتكون موضوعات مدروسة ومحققة ومفهومة من قبل القائمين بالعمل الفقهي الشرعي. ومن ذلك: (فقه النفس) و (فقه المجتمع) و (فقه التحضر) و (فقه العمران) و (فقه الاستثمار) و (فقه المدنية) و (فقه المواطنة) و (فقه البيئة) و (فقه الأرض).

ولا أظـن أن هـذا الاقتـراح يـأتي لمجـرد تنويع في الأسمـاء أو لزيادة كم المعلومات والبيانات أو مسايرة للشائع (أو الموضة العـلمية، كما يقال) في بعض الدراسـات والأبحاث وإنما يأتي ليسد حاجة معرفية ومنهجية وواقعيـة، وليفـرد هـذه المفردات بالـذكر والتحليل والتحقيق، بما يخدم كثيرا من المتطلبـات المعرفية والحضارية والتنموية، وبما يحقق نتائج مهمة على صعيد فهم الأمور وأداء السلوك المناسب وفعل المسايرة المطلوبة اجتماعيا وبيئيا وحضاريا.

(ففقه التحضر) مثلا قد يراد به جمع كل الأحكام الفقهية، التي تبين حقيقة وتفاصيل العمل الحضاري والإنتاج الثقافي، كالصنائع والحرف والزراعة والإجارة والاستثمار المالي والتعاملات الاقتصادية والأعمال البيئية [ ص: 79 ] والسـلوكيات الأسـرية والاجتماعية، فكل هذه الأفعال والتصرفات الإنسانية إنما هي أفعال قد ارتبطت بـها أحـكامها الفقهية الشرعية. وجمعها وإبرازها وربطها بموضوع الحضارة ومدلولها وتلبسها بالواقع الحضاري المعاصر ومقتضياته ومتطلباته وآفاقه وآثاره، يستجيب لحاجة منهجية وأكاديمية في إفـراد موضوع التحضر الإسلامي بالبيان، من خـلال جمع مادته وضبط مظانه من المدونة الشرعية الإسلامية ومن الواقع التاريخي والمعاصر للمسامين.

ويستجـيب كذلك لحاجة معرفية واجتمـاعية وحياتية، من خـلال تحقيق القول في موضوع التحضر وتوجيه الناس إليه وإقناعهم به وحملهم على تفعيله وتجسيده في واقعهم وحياتهم.

وقد يراد بـ(فقه التحضر) العلم الدقيق بموضوع التحضر وبالفعل الحضـاري وبحقيقتـه ومبرراته وعوامل نجاحه وتأثره بغيره وتأثيره في غيره، وهو ما يدعو المسلمين والعاملين في الحقل الفقهي إلى معرفة السنن واستثمار الواقع والتاريخ والنظر والاعتبار بحقائق الحضارة وبمسارات الأمم ومآلاتها وإضافاتها الإنسانية وإسهاماتها في مسيرة البناء والنهضة والازدهار، وهو ما يحقق العقلية الناضجة والمبدعة في التعامل مع صنع الحضارة وبناء العمران بمرجعية إسلامية تتأسس على العلم بالفقه وفنونه ومنظومته المشار إليها في مواضع عدة من هذا البحث. [ ص: 80 ]

وعبارة (الفقه) الواردة في موضوع التحضر وفي الموضوعات الأخرى، يراد بها العلم الدقيق والمعرفة الواعية والواسعة والجامعة بحقيقة المضمون المعرفي أو الموضوع العلمي، وهذا استنادا إلى الدلالة اللغوية والاصطلاحية والمعرفية الشرعية لعبارة الفقه، إذ يطلق الفقه -كما هو معروف - على الفهم الدقيق والعلم العميق بالأمر الذي يراد فهمه وفقهه، قال تعالى: ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) (النساء:78)، وقال تعالى: ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ) (هود:91).

وهذا يؤكد ما ذهبت إليه من أن العلوم الفقهية التي يتعين استحضارها في الواقع والحياة هي علوم الفقه المتنوعة ( فروع، أصول، قواعد، مقاصد، خلافيات وأدبيات، نوازل، مستثنيات، فروق...)، وبكيفية معرفية دقيقة وعميقة تستقصي الحقائق وتستقري المواضع وتستخلص النتائج وتوجد الصيغ والبدائل وتجمع بين كل المعطيات والمعلومات والإفادات والبينات.

التالي السابق


الخدمات العلمية