الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

عندما يصنع الاستبداد العنف

عمر عبيد حسنة [1]

التنوع والاختلاف سنة كونية وحقيقة بيولوجية ماضية في الحياة، وواقع مشهود؛ لأنها متولدة من أصل الخلق والتكوين: ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:27-28).. ولعل من لوازم هذه الحقيقة وثمراتها ما يمكن أن نطلق عليه: "سنة التدافع الحضاري" التي تحكمها نواميس وقوانين الحركة الاجتماعية وعوامل السقوط والنهوض الحضـاري.. وسنـة التدافـع هذه تؤدي بدورها إلى ما يمكن تسميته بـ"حركة الحضارة" أو "سنة التداول الحضاري" أو ما أطلق عليه بعضهم "الدورات الحضارية".

إن التدافع الحضاري، أو سنة المدافعة، ليست عملية عبثية عشوائية وإنما تحكمها قوانين ومحركات اجتماعية يتطلب التعامل معها الفهم والاستيعاب والقدرة على التسخير، التي تؤهل لمغالبة قانون بآخر، أو قدر [ ص: 101 ] بقدر، وبهذا الفهم والاستيعاب يتأهل الإنسان إلى الاضطلاع بالدور الحضاري الفاعل، والموجه لمسيرة الحضارة، وتحويل التنوع والاختلاف إلى مصدر إثراء وإغناء وفسحة تنافس وميدان تكامل وتعايش وتحاور وصولا إلى بناء المشتركات الإنسانية، والعمل على الاعتراف بوجود التنوع المقرر بأصـل الخـلـق، الذي يتيـح القبـول بالخصوصيات، أو الهويات الثقافية، أو الذات الحضارية، والاقتناع بأن ذلك هو سبب التوالد والتوليد والتلاقح والنمو والامتداد والارتقاء.

ذلك أن سنن المدافعـة بين المتنوعات والمختلفات هي المهماز الحضاري، وسبيل النمو والحراك والارتقـاء والتفاعل والفاعلية، وإضـافة عقول إلى عقل، وخـبرات إلى خبرة، إذ لا يمكن عقلا ولا واقعـا أن يكون الخلق نسخة واحـدة في كل شيء؛ لأن ذلك يعطل قوانين الحياة والأحياء والتكامل ويناقض أصل قيام الحياة الاجتماعية.

وقد يكون من ثمرات المدافعة البارزة، بكل محركاتها وقوانينها الاجتماعية، التداول الحضاري ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140)، فالحضـارة تاريخيا حركة دائمـة ومتحولة، لم تكن حكرا على جنـس أو لـون أو جغـرافيا، وإنمـا خضعـت لحـركة التغيير المستـمر وحـتى الاستبـدال، فـكثير من الحضـارات سادت ثم بادت، وسقطت عندما وصلت إلى مرحلة أصبحت معها عاجزة عن التغيير والتكيف [ ص: 102 ] والارتقـاء، كما أن الكثـير منها سقطت ثم نهضت، ومرضت وأصابها الوهن ثـم تعافت واستـأنفت مسيرتـها، ولذلك قوانينه وعواملـه المـؤثـرة في السقوط والنهوض.

وقد تكون الإشكالية الكبيرة، تاريخيا، متمحورة حول القبول بهذا الاختلاف والتنوع وكيفية إدارته، أو كيفية التعامل معه، وإدارة عملية المدافعة الحضارية، وقبول الشراكة الإنسانية من حيث المبدأ، والاقتناع أن (الآخر) موجود عمليا، وهو بطبيعة اختلافه يشكل محرضا حضاريا، وأنه مساهم حضاري، ومشارك في بناء الحضارة، وأن ساحة الفعل الحضاري ميدان يتسع لمسابقة الجميع، ولعطاء الجميع.

واستقراء تاريخ الحضارة يدلل على أنه ما من أمة من الأمم إلا وتمتلك ما تقدمه حضاريا، سواء على مستوى إنسانها، وهو أصل الحضارة وهدفها ووسيلتها، أو على مستوى البيئة والجغرافيا والمناخ والموارد والخامات، وحتى الأسواق الاستهلاكية، التي سوف تحرك عجلة التقدم والإنتاج، أو هي على الأقل محل الرسالة (المستقبل) أو المتلقي الذي يتم من خلاله التغيير.. فـ(الآخر) على كل الأحوال شريك حضاري عمليا، سواء كان من أمة الاستجابة، المؤمن بالقيم الحضارية نفسها، أو كان من أمة الدعوة، محل طرح القيم وتفاعلها.. ولو كان الخلق نسخة واحدة مبرمجة على فعل واحد لما كان هناك داع للنبوة والتغيير والإصلاح. [ ص: 103 ]

والتنافس الحضاري هو ساحة التفاعل الحقيقية، التي يطرح من خلالها كل إنسان وكل أمة وكل حضارة ما عندها، وتحاول بما تمتلك من الإمكان وعوامل الإقناع قيادة المركبة الحضارية. فالساحة الحضارية المشتركة محل للبيان والبلاغ والدفاع عن القيم، وبيان الرشد من الغي، والإغراء بما فيه سعادة البشرية.

لكن إدارة هذه المدافعة والتعامل معها حملت تاريخيا أشكالا وألوانا من الفعل استخدمت فيه كل الأسلحة والوسائل المادية والمعنوية، ونشأت حوله فلسفات متعددة ومتنوعة، حتى قد وصلت عند بعضهم لاستخدام العنف والقوة في محاولة لإلغاء (الآخر)، يقول تعالى: ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ) (المائدة:27-30).

وهكذا بدأ التاريخ الإنساني، وتحركت عجلة الحضارة، وسارت سنن المدافعة حتى المواجهة، ترتقي وترتكس، ترتقي إلى المستوى الإنساني وترتكس إلى مستوى شريعة الغاب، حيث الفساد وسفك الدماء: ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ... ) (البقرة:30). [ ص: 104 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية