الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

خلاصة القول

ونحب أن نعاود التأكيد أن ظاهرة العنف والتطرف ظـاهرة مركبة معقدة تتداخل فيها عدة أسباب - كما أسلفنا - فالعنف الفردي قد يرد إلى سبب واحد على الأغلب أو أكثر، لكن عندما تصل الإشكالية إلى مستوى الظاهرة فردها إلى سبب واحد فيه الكثير من السذاجة والتبسيط والتهوين، الذي لا يقل عن التوهم والسذاجة بأن حسمها واقتلاعها يمكن أن يتحقق بالحل الواحد الأمني، أو بالعلاج الأمني، وعندها يصبح حالنا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

وخلاصة الرأي في تقديرنا أن من الأسـباب الرئيسة لنشوء الظاهرة ونموها وتداعياتها: الاستئـثار بالسـلطة، والاستئثار بالثروة، وإيجاد التغطية الشرعية أو الدينية، وما يفرزه ذلك ويستتبعه من الممارسات التي قد تسـتقل بذاتـها فتصبح أسبابا تزيد الظاهرة تعقيدا وتجذرا وخطورة، وتساهم بتكبيرها وتوسيع نطاقها وامتداد آثارها كدحرجة كرة الثلج.

ولعلنا نقول: بأن الاستبـداد بالسـلطة يسـتدعي أو يولد أو يقتضي الاستئثار بالثروة، فالاستبداد السياسي يورث القمع، والقهر، والإقصاء، والتأله، والجبروت، والطغيان، وإشاعـة الخوف والرعب، والإلغاء لإنسـانية الإنسان، والهدر لكرامته، وتعطيل ملكاته، ومطاردته، وكبته، وحرمانه من التفكير الحر وممارسة التفكير، وانسداد أقنية التعبير، والحرمان من المشاركة بالرأي، واعتمـاد القوة بدل الحجة، وتقديم أهل الثقة والولاء للحـاكم [ ص: 184 ] وحواشيه على أصحـاب الخبرة والمعرفة، واتساع هواجس الخوف، بسبب التجسس على تصرفات الناس وأفكارهم، وما يتولد عن ذلك من ممارسات الثأر وتصفية الحسابات والكبر والتعالي وتعويض مركب النقص وتغطية الفشل في الحياة الجادة.

وغـالبا ما يسـتقطب الاسـتبداد السياسي نوعيات الفاشـلين، الذين يجـدون عنده بغيتهم، حتى ليمـكن القـول: بأن المسـتبدين والجـبارين والدكتاتوريين هم الذي يستأثرون بالتصرف في السـلطة، والناس من حولهم أشبه ببعض المخلوقات التي تحيط بحامل طبق الحلوى، فيشكلون طبقة يستخفهم الحاكم المستبد فيحولهم إلى قطيع مزيف، ويسـتخفونه فيصدق مدحهم وما يلقون عليه من الألقاب الكاذبة، من مثل الإلهام والبطولة والذكاء الخارق، وعندها تتحول الانكسارات إلى انتصارات، والفشـل إلى نجاح، وتحتل المجتمع ثقافة العبودية المتبادلة.. فهو يذعن لهم طلبا لدعمـه ومسـاندته وضمان استمراره، وهم يذعنون له لضمان مصالحهم ومكاسبهم، التي لا تؤهلهم إمكاناتهم الذاتية للحصول عليها، فتصبح مربوطة بوجوده، وكأنه الرزاق المحيي المميت، يعبدهم ويعبدونه (!)

في هذا الجو الخـانق، والعسـف، الذي يصيب كل شيء، وفي مقـدمة ذلك الحرمان من الكرامة والإنسـانية، تتحول أجهزة الأمن والجيش من الدفاع عن الوطن ورد الأعداء والطامعين إلى حماية الحكم ومطاردة الشعب، وعندهـا يتحـول الإنسـان إلى لغم مهيأ للانفجار والعنف والتطرف وفعل أي شيء؛ لأنه فاقد لكل شيء، ومطارد في كل شيء. [ ص: 185 ]

وحتى يضمن الاستبداد تحقيق المنافع لجيوش الأتباع وعناصر الأمن والإنفاق على المحاسيب لا بد أن يستأثر بالثروة، وعندها يتحالف ويلتحم رأس المال مع السياسة، ويمتد الفساد لينال كل نواحي الحياة، الاجتماعية والاقتصادية، وتشل المجتمعات، وتتوقف المحركات الاجتماعية، وتنتعش البطالة، ويكثر الحرمان، ويعم الفقر والقهر، وينمو الحقد، وتنتهك القيم، ويستـفز الناس في عقـائدهـم وقيمـهم وتقـاليـدهم الاجتـماعيـة، فلا تنمو في المجتمع سوى الرذيلة والإباحية، ولا تتقدم إلا أجهزة القمع والتجسس، ولا تتوفر الحرية إلا لممارسة الرذيلة.

في هذا المناخ القلق فاقد التوازن، الذي يحرم الناس من الحياة السوية، ويغلـق عليهـم كل مجـالات الحـركة والكسـب والتعبـير وتحقيـق الذات، إلى جانب الاستفزاز والتحدي من سقط الناس ورعاعهم؛ يتحول المجتمع إلى ساحة مزروعة بالألغام المؤهلة للانفجار، وإلى بركان كبير يلقي بحممه التي قد تأتي على الأخضر واليابس.

في هذا الجو، تنمو البطالة والفقر والجوع والجنوح والجرائم المنظمة والتشرد والتفكك الأسري والعصابات، التي قد تستظل بظل الأنظمة المستبدة، بالحق والباطل، وتكثر الذرات الصغيرة التي تتجمع وتتحالف لتشكل ظاهرة التطرف.

هذا الطاغوت السياسي والمالي، يتطلب بطبيعة الحال توفير طبقة من المثقفين الخونة لمسؤولياتهم وفقهاء السلطان، الذين يبيعون دينهم بعرض من [ ص: 186 ] الدنيا قليل، لممارسة السدانة وإيجاد المسوغات السياسية والشرعية لهذا الطاغوت، فلكل طاغوت كهنته، الذين تشرئب أعناقهم لكنـز الذهب والفضة، على الرغم من تحـذيرنا من تسرب علل التدين عند الأمم السابقة، التي كانت سبب هلاكهم وانقراضهم حيث هلكوا بالطاغية، يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) (التوبة:34)، آية نزلت في رجال الطاغوت الديني وليس في الطغاة؛ لأنهم الأخطر في صناعة التضليل، وتغييب الوعي، وتعطيل الفاعلية، وعند ذلك تصل الأزمة إلى التحالف غير المقدس، أو الثالوث غير المقدس، وهو:

الطاغوت السياسي، الاستئثار بالسلطة؛ والطاغوت الاجتماعي والاقتصادي، الاستئثار بالثروة؛ والجبت (الكهانة الدينية)، الاستئثار بالتفسير الديني وابتداع الحيل الشرعية، التي تشكل المسوغ والغطاء الشرعي الديني لذلك.

وليس أقل شأنا وخطورة، في صناعة التطرف والعنف وتوفير أسبابه، ذهنية التجييش، ولكل طاغوت جيشه، والتحشيد، والتحميس، والخطب الرنانة، والانفعال، وإغراق الساحة الثقافية والدينية بمجموعـة من المبادئ والشعارات، وإذكاء عاطفة الجماهير وتأجيجها وربطها برايات الجهاد [ ص: 187 ] وتعطشها إلى ممارسة الاستشهاد، طمعا في نيل الثواب والفوز بالجنة، وإثارتها واستفزازها بخطورة الواقع وثقل ضغوطه، ومن ثم تركها لمصيرها، بعد أن تحققت الزعامات، دون أن تضع الأوعية الشرعية لحركتها، والخطط المدروسـة والموضوعية لفعلها، والتقدير الدقيق للظروف المحيطة والاستطاعات المتوفرة، فتتحول إلى ألغام موقوتة تنفجر هنا وهناك، وقد تنفجر بنفسها وبمجتمعها؛ ذلك أن انعدام الرؤية والاستراتيجية للعمل يؤهل هذه الجماهير المتحمسة للاستغلال والتحريك والاختراق، والاستعداد لتقديم التضحيات في غير مواضعها وزمانها ومكانها، تتحول لتصبح مخزنا للتضحيات وأدوات تصفى بدمـائها الحسـابات الإقليميـة والدولية، كما تقفز على أكتافها زعامات لا تقصر في استغلالها أيضا لبناء زعامتها.

التالي السابق


الخدمات العلمية