عاشرا: الضوابط الشرعية:
ويراد بها جملة الأمور المعرفية والمنهجية التي تضبط النظر الفقهي الشرعي فهما وتعقلا واستخراجا واجتهادا وترجيحا وتنقيحا وتنـزيلا وتفعيلا. أي أنها الأمور التي تضبط في آخر المطاف الأحكام الجزئية، بإظهارها وتقريرها وتفعيلها.
والضبط هنا أمر مطلوب شرعا وعقلا ومنطقا، وهو ضرورة ملحة وحاجة لازمة لتحقيق المراد الشرعي والمقصود الديني، ولتحديد الأمور وفق حقائقها وماهياتها، وحسب معايير اتفاقية نصية وعقلية ومنطقية وواقعية، أي أن الضبط يحدد ويبين ويقدر المدلول والمعمول والمطلوب والمنشود، من ناحية اللغة الحاملة لوجوهها، ومن ناحية الروابط الحوامل التي تجمع بين المتفرق وتمتن المربوط، ومن ناحية البيئات الثقافية الحاملات لمفرداتها التي تسهم في الضبط والتحديد والبيان والتدقيق.
وفقه الضوابط أمر معروف في كل الدنيا بمختلف مجـالاتها ومناشطها، وهو مبثوث في فنون المنظومـة الشرعية الإسـلامية، كفن التفسـير وفن الرواية [ ص: 43 ] والدراية وفن الاجتهاد والتأويل والتعليل وفن الممارسة الصوفية الروحية وفن عمارة الأرض وصناعة الحضارة...
فقـه الضوابط مدرك في كل العلوم والفنون، ولولا الضوابط لما تأسست هـذه العـلوم على قاعدة العلمية الموضـوعية والمنهجية المحكمة والمتقنة، ولما ظـلت هـذه الفنـون مشتركا إنسانيا وحضاريا تتداوله العقول وتذعن له النفوس.
والفقه باعتباره أحكاما شرعية جزئية تحكمه هذه الضوابط وتؤسسه جملة الروابط والحدود المعروفة الثابتة، فهو مضبوط بضبط أصوله وقواعده ومدركاته، وهو مضبوط بغاياته ومقاصده وأسراره، وهو مضبوط بسماته وخصائصه كسمة الواقعية والعالمية والإنسانية والأخلاقية وكخصيصة مسايرته للفطـرة والسمـاحة والرفـق واللين والسهولة من غير تفريط ولا تفويت، وهو كذلك مضبوط بمناسبته لوقائعه التي يتنـزل فيها ليعالجها ويجد الحلول المناسبة لها، وهو مضبوط أيضا بروح الموضوعية والمنطقية والعقلية التي تجعل الحكم الجزئي غير خارج عن المعهود الإسلامي التعبدي، أو المعهود المعقول المعنى والفائدة، إذ لا يستساغ استنباط حكم جزئي يجافي هذين المعهودين، كقول غلاة الظاهرية بأن تصريح البكر بالموافقة على الزواج لا يكون صحيحا ولا معتبرا، تقيدا بظاهر التوجيه النبوي الذي ينص على أن إذن البكر صماتها. [ ص: 44 ]
ولعل السبب في تقرير هذا المعنى الفقهي الجزئي الغريب يعود إلى انتفاء الضبط المدلولي والسياقي لبيان هذا المعنى، ذلك أن التنصيص بالصمات للبكر يأتي في سياق الوصف الغالب للبكر في شأن النكاح، ويأتي ليدل على البلاغة أو اعتماد الأسلوب الأبلغ في الخطاب، إذ الأبلغ هنا هو صمت البكر لمناسبتـه للحيـاء الذي يمنعـها من التصريح بالكلام، ولأنه في موضع الحاجة إلى البيان فيكون بيانا، ولأنه أدعى للحياء والحشمة وألزم للستر والتربية وأبعد للحرج والعنت.
وهذه المعاني كلها هي معاني ضابطة للحكم على صمت البكر، واعتباره موافقة منها ومطابقة لما في نفسها وقلبها.
ولو تكلمت البكر وصرحت بالموافقة لكان هذا منضافا إلى صمتها، وهو من توارد المسالك وتضافر الوسائل على المقصود الواحد، وهو مع ذلك صورة نادرة وحالة خاصة تكون عليها بعض الأبكار لطبائع وعوائد خاصة، ولكن دون إبطال للغالب والشائع.
ومن الأمثلة المعروفة: مسألة تكفير إنسان بفعل معين أو ممارسة معينة، فيصدر بموجب هذا الفعل أو الممارسة حكم جزئي بتكفير هذا الفاعل أو تفسيقه أو تبديعه، ولكن من غير مراعاة لمجمل الضوابط اللغوية والشرعية والحالية التي تضبط هذا التكفير، أي من غير مراعاة لمجمل الأمور التي يصـح أن يطلـق فيها لفظ التـكفير، كأن يطـلق على الذي [ ص: 45 ] يستحقه، وأن يطلقه الذي يكون أهلا له، وأن يطلق في مواضعه ومجالاته وفي دائرته المحصورة.
وبغياب الفقه بهذه الضوابط يكون وصف الكفر، إما واقعا على غير صاحبه الذي ينعت به لموجباته ومسوغاته، وإما معدوما وغير مطلق وغير موجه لصاحبه الذي يلزم أن ينعت به، وهو ما يؤدي إلى قلب الحقائق، (وحمل السلم موجها بالعرض لا بالطول، كما يقال في المثل العامي التونسي)، ويترتب على هذا الخلط تكفير مسلم بغير حق، أو سلب كفر عن كافر، وهذا كله ممنوع، دينا وحضارة.
وبناء عليه، فإن الوصف بالكفر أو بعدمه مسألة حساسة وخطيرة، وينبغي أن تكون دائرتها مضبوطة بضوابط علمية ومنهجية وأخلاقية وتخصصية وأمينة وصادقة، وينبغي أن يكون هدفها الدين والمعتقد والأمة والأمن والخير، وليس مرماها مسايرة الهوى أو مزاولة السياسة أو إرادة التصفية والانتصار للذات أو المذهب أو الإقليم، أو مزاولة التشويه والتشهير والتثوير وغير ذلك.
وكذلك الوصف بالبدعة أو بالخيانة أو بالغلو أو بالعتو، أو بالإسراف والانحراف، فكل هذه الأوصاف لا ينبغي أن تطلق على عوارضها ومطلقاتـها، وتصـدر من كل من هب ودب، بل هي من الأوصاف التي لها حقائقها وأمارتها وشواهدها، والتي تـنـزل في سياقاتـها ومسـاراتـها، [ ص: 46 ] والتي ينـزلها صاحب الصلاحية العلمية أو القضـائية أو السياسية أو الاجتهادية. والتي تحدد وتضبط بميزانها اللغوي والاصطلاحي وبمعيارها الموضوعي والمقاصدي والتكاملي.
وأخطر ما تصاب به أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أن ترسل الأحكام وتطلق النعوت، من غير ضابط ولا رابط. وأنكى ما تبتلى به فئة علمية أو هيئة فقهية، أن تتناقل أحكاما فقهية جزئية تاريخية قديمة وأن تسوقها، كمعالجـات وبـدائل لمشكلات معاصرة، ولكن من غير التفات إلى قيودها وضوابطها التاريخية التي تمت بموجبها، وتأسست كحلول لمشكلاتها الواقعة في حينه.
وهـذا هو عين الإسقاط والتعسف في العمل الفقهي واستنباط الجزئيات الفقهية، وهو عين الإرسال والإطلاق والانفلات من الروابط والجوامع والضوابط.
إن عمل الفقيه أو المتفقه الجزئي الذي يفرع الأحكام ويفصل مواقف الشرع في نوازل الحياة وتفاصيل العصر والواقع، ينبغي عليه استحضار الضوابط العامة والجوامع العقدية والأخلاقية والتشريعية والثقافية الكبرى، حتى يكون الجزئي المتوصل إليه انعكاسا للكلي ومنضبطا به ومتناغما معه، لا أن يجعل من هـذا الجزئي خـلافا لأصله، مجافى لفطرته ومخالفا للعقيدة أو الأخلاق أو لمصالح الناس في الدنيا والآخرة. [ ص: 47 ]