ثانيا: أسباب العنف المتعلقة بالجهة المتفقهة:
الجهة الفقهية هي الجهة التي يصدر منها العمل الفقهي، بحثا وتعليما وإفتاء وقضاء وتدوينا وتقنينا. وهذه الجهة تكون فردا كما هو الحال بالنسبة للفقيه أو المفتي أو عالم الشريعة وفروعها، كما تكون هذه الجهة هيئة جماعية أو مؤسسة منظمة ومقننة كما هو الحال بالنسبة لهيئات الإفتاء ومجامع الفقه ومراكز الاجتهاد ومقار الجامعات والكليات والمعاهد التي تجعل من علم الفقه والإفتاء والاجتهاد أحد تخصصاتها وأعمالها.
ويتفاوت العمل الفقهي لهذه الجهات (أفرادا ومؤسسات)، وتتفاوت سماته ومناهجه من حيث العمق العلمي والصلاح التزكوي والإحاطة بالواقع والعلم بالعصر والمعالجة الأصيلة والمتينة والسوية، وذلك بتفاوت الأحوال الخاصة بهذه الجهات (علما وتزكية وأداء)، وبتفاوت البيئات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تؤدي فيها هذه الجهات أعمالها الفقهية وأدوارها الإفتائية.
وبطبيعة هذا العمل وبدوره الإيجابي الفعال يتحدد المحصول الثقافي والإنساني والأمني المترتب على هذا العمل وعلى هذا الدور.
ومن هنا، فإن تطرق الخلل أو القصور أو الانحراف إلى طبيعة هذا العمل الفقهي وفي دوره ورسالته، قد يكون أحد الأسباب الرئيسية في نشوء حالة العنف وظهور واقع التشدد أو تغذية بعض أحوال الاحتقان المذهبي [ ص: 56 ] والتوتر الاجتماعي، وذلك بأن تستند إحدى هذه الجهات إلى نمط واحد من القراءة الفقهية، أو الانحياز إلى بعض التكتلات، أو الحياد التام، أو غير ذلك مما يحول هذه الجهة الفقهية عن مسـارها الطبيعي في العمل الفقهي وفي الإصلاح والتوجيه والإفتاء والبيان.
ويمكن أن نورد في ما يلي أهم هذه الأخلال والنقائص التي قد تصيب هذه الجهة، وقد تتسبب في العنف بشكل من الأشكال وبحجم من الأحجام وبصورة من الصور :
- الاستناد إلى نمط واحد من القراءة الفقهية التي تميل إلى التساهل المفضي إلى التهاون والتقصير، أو القراءة الفقهية التي تميل إلى التشدد والغلو والإفراط في الأخذ بالأحوط والعمل بالأفضل، وهذا قد يوجد جيلا من المتلقين الذين يشددون على أنفسهم أو على غيرهم في مجال التعبد والامتثال الشعائري، أو في مجال التعامل والتواصل مع (الآخر)، وهو ما يؤدي إلى نوع من العنف مع النفس والتشديد عليها، أو نوع من تعنيف (الغير)، بحمله على ما يكون زائدا على الطاقة الإنسانية، وبإيقاعه في دائرة من التكاليف الشاقة الخارجة عن الحد الأوسط والمقدار المناسب لمستطاع الناس ولمطلوب الدليل ولمراد الشارع.
وقد تكون إشاعة هذه القراءة الفقهية التشددية بين أجيال من الناس وباعتماد بعض الوسائل التعليمية والإعلامية والثقافية المتاحة، وبمسايرة بعض [ ص: 57 ] أهواء العامة الذين يتعاطفون في الغالب مع خطاب التشدد (تحت عنوان الأحوط والأبرأ للذمـة)، وبموافقة طبائع بعض الدعاة أو الوعاظ الذين يخلطون بين الخطاب الدعوي والوعظي المرشد والمبين لتوجيهات عامة ونصائح مجملة ومطلقة تصلح من حيث عمومها وشمولها لأن تلقى بهذا التعميم، فإن هؤلاء يخلطون بين هذا الخطاب الدعوي والوعظي وبين الخطاب الفقهي الإفتائي الذي تتغير فيه البيانات والمعالجات والبدائل بحسب مقامات الأحوال والأشخاص. وقد يصلح فيه الأكمل حينا، ويصلح الكامل حينا آخر، ويصلح ما دون ذلك على أن لا ينزل عن الأدنى المجزئ الذي تبرأ به الذمة ويصح به التكليف ويحصل به الثواب وينتفي به العقاب.
فليس اللجوء إلى الأفضل أو الأشد أو الأثقل دائما هو الأرجح والأغلب في حـال الإفتاء والقضـاء والتوجيه، وكذلك اللجوء إلى الأيسر أو الأسهل أو الأقل، فإنه ليس هو الأرجح، وكل هذا يتحدد بحسب مقامات الأحوال والأشخاص ومراتب الأنظار ومسالك الاجتهاد وملكات الناظرين والمجتهدين والفقهاء والمفتين.
فقد تكون إشاعة هذه القراءة الفقهية وتقريرها في نفوس كثيرة من المقلدين والمتعلمين والمبتدئين، قد تكون سبيلا لإشاعة ثقافة التشدد والغلو، وللتسبب في حالات العنف والتعنيف، وذلك من خلال الاعتقاد بخطأ [ ص: 58 ] غـيرها من القراءات الفقهية الأخرى، وبخطأ أصحابـها الذين قد ينعتون بالتهاون في الأداء الفقهي (فهما وتطبيقا)، والذين قد يصنفون على أنـهم مخالفون أو مارقون أو منحرفون، وقد يكون لذلك أثره في تغليظ القول وتشديد التعامل والوقوع في أنواع وصور من العنف والتعنيف مع هؤلاء.
كمـا قـد يكـون انحيـاز هذه الجهة الفقهية إلى إحدى التكتلات أو الجماعات أو الأحزاب أو المنظمات، مدعاة لاتهامها بما تدين به تلك التكتلات التي تم الانحياز إليها، ويتعزز هذا بالخصوص عندما تكون هناك مشـاحنات وتوترات يبن تلك التكتـلات وبين الفريق المذهبي أو الفقهي الذي صدر منه اتهام الجهة.
- انـحـيـاز الجـهـة الفقـهيـة إلـى إحـدى الـتـكتلات الـفـكريـة أو السياسية: وهـذا يكون مدعـاة لتـطرق التهـمـة العقدية أو العلمية أو الاجتهادية أو الأخلاقية إلى هذه الجهة الفقهية، الأمر الذي يفقدها مصداقيتها العلمية ويسلبها دورها في تحقيق العلم النافع والفكر السوي والشخصية المعتدلة، وهو ما يكون سببا لقيام العقلية المعوجة أو الشخصية المضطربة والمهزومة أو المنهج المغالي أو المتشدد مما يكون له أثره في قيام فكر عنيف أو سلوك متشدد ومعاملة قاسية.
وقد يكون لهذا الانحياز أسباب مبرراته، وقد يكون مشروعا بثبوته بمؤيداتـه وموازناتـه الشـرعية، وقد يكون غير مشروع وغير مقصود به [ ص: 59 ] سوى الرغبة في المسايرة والجري وراء الشهرة والسعي إلى بعض المكاسب واللذات العاجلة.
وعليه، فإن الحكم على مشروعية هذا الانحـياز يتحدد بمعطياته ومسـالكه الشرعية، وقد لا يدرك العامة وعدد من الخاصة طبيعة هذا الانحياز، بل قد يتسرعون في إطلاق الحكم على هذا الانحياز وإطلاق الحكم على هذه الجهة، إما باعتبارها جهة معتبرة ومقبولة ومحل ثقة ودين وأمـانة وعـلم، أو باعـتبارها جهة متخـاذلة ومنـهزمة ومتـواطئة مع الكتلة، التي انحازت إليها.
والمهم من هـذا كله أن اهتـزاز مـكانة الجهـة الفقهية (العالم الفرد أو المؤسسة المنظمة) وتطرق التهمة إليها قد يؤول إلى فقدان المرجعية العلمية أو إضعاف دورها في التربية والتعليم والتثقيف على السماحة والوسطية والمعقولية، وعلى دفع التعنيف والتشديد والتثقيل.
وقـد يكون لهـذا الاهتزاز أسبابـه المتعـلقـة بالجهة الفقهية نفسها، أو بعموم المتلقين والمتعلمين، أو بجهات أخرى لها مآربها في وجود هذا الاهتزاز، وفي أن يهجر الفقهاء وينصرف الناس عن العلماء ليتخذوا رؤوسا جهالا، وقيادات وهمية وأبطالا كالدمى.
- الحياد التام للجهة الفقهية عن أي تكتل أو تجمع نافع ومفيد لنشر الثقافة الفقهية المعتدلة والوسطية والمتوازنة، وهذه عكس الصورة [ ص: 60 ] السابقـة، وهـي ترد أحيـانا لتعبر عن عقلية فقهيـة انسحابية أو انطوائية أو تشاؤمية أو ظاهرية تقوم الواقع على ثنائية مطلقة (أبيض وأسود)، وتتعامل مع التنـوع الثقـافي والسـيـاسي والبيئي على أنه شيء واحـد، وأن حكمه واحد، وكثيرا ما يميل هذا الحكم إلى وجوب الفرار والهروب وإطلاق التكفير والتعنيف.
وكثيرا ما يترك هذا الحياد السلبي الفراغ الفكري والتشريعي والاجتهادي والتربوي، والتسويغ للبدائل والأطروحات الأخرى كي تأخذ بزمام المبادرة وبأمور القيادة وبمشعل الريادة، بل إن هذا الحياد قد يحرم أجيالا كثيرة من العلم النافع والتعليم الديني والفقهي المعتدل والمتوازن، ومن الفكر الإسلامي الوسطي والواقعي والحضاري، وذلك بارتماء هذه الأجيال في ميادين كثيرة من ميادين المعرفة الشرعية الظاهرية الحرفية، ومن ميادين الثقافة التجزيئية والتبعيضية، التي تشكو من فراغات مضمونية إسلامية كثيرة بموجب التفقه السريع أو التعلم عن بعد، أو التثقيف الموجه.
والحـق أن الحـد الأوسـط (بين الانحياز والحياد) هو الانحياز المعتدل أو الحياد الإيجابي، أي تحديد الموقف بناء على معتبراته الشرعية وموازناته المقاصـدية وظروفه الواقعيـة. والحكم على الشيء فرع عن تصوره. والفقيه - في النظر الصحيح- هو الذي يتواصل مع الجميع (مع الخاصة والعامة، مع التكتل المذهبي ومع الجماهير الواسعة) وهذا التواصل يتأسس على مجمل [ ص: 61 ] إعمال العلوم الفقهية المذكورة، وعلى مراعاة قواعد الموازنات الشرعية وقواعد المصالح والمفاسد وفق منهجيتها الدقيقة التي يعرفها الراسخون ويدركها المحققون من علماء الأمة وفقهاء الشريعة.
- عدم توحد الجهات الفقهية، وعدم توحيد جهودها وتراكمها الفقهي والاجتهادي، وهو ما يؤدي إلى تباين المواقف وظهور الاتجاهات المتعارضة أو المتنازعة، الأمر الذي يسهم في قيام حالات من التنافر والاحتكاك أو التخاصم والافتتان، وهذا كله مظهر من مظاهر العنف وصورة من صوره.
هذا فضلا عن أن توحيد هذه الجهود يوفر الكثير من الأوقات ويحق الكثير من الإضافات ويسهم في تنقية كثير من أجواء التوتر المذهبي والتنازع الفقهي والسلوك العنفي.
- السلبية التي عليها بعض الجهات الفقهية، كالانسحاب من الواقع والفرار من معالجة المشكلات، وعدم تطوير الذات وتذكيرها بأيام الله وأحكامه ووصاياه، وتنبيهها بما يبعد عنها غفلتها القلبية واللسانية والعقلية، والاكتفاء بالمحصول وعدم السعي إلى المأمول، وحشر النفس في همومها المـادية أو العـاجـلة وسوقها للمسايرة من غير علم وللمعاصرة من غير عقـل وللمـواكبة دون وعي، فـلا ظهرا أبقت ولا أرضا قطعت. ولا حول ولا قوة إلا بالله. [ ص: 62 ]
والحق أن هذه السلبية تتخذ أشكالا عدة وصورا شتى، وهي تلتقي كلها في تقاعس الفقيه (الفرد أو الهيئة) عن القيام بدوره الشرعي التربوي وعن فعل أثره الحضاري والعمراني والإصلاحي والمصلحي.