- صناعة الظواهر:
وقد يكون من المفيد أن نعرض لقضية، ونحن بصدد النظر في الظواهر الاجتماعية والإنسانية التي تطفو على سطح المجتمعات بين حين وآخر، هذه القضية هي أن الكثير من الظواهر الطافية قد تبدو ظواهر غريبة عن جغرافية البلد وديمغرافية المجتمع وتاريخه الثقافي والحضاري وقيمه الدينية، هي ظواهر دخيلة على المجتمع ونسيجه الاجتماعي والثقافي، تشكل عضوا غريبا مزروعا في غير جسده، ونبتا نشازا يوضع في غير تربته، ليشكل ذلك ذريعة ومسوغا لتحقيق أغراض وأهداف خفية وغير منظورة؛ على مستوى (الذات) و (الآخر) وهذا ليس غريبا في تاريخ الأمم والشعوب وقيام الحضارات وإسقاطها، فكم من المعارك المفتعلة التي يكون وقودها الكثير من التضحيات باسم التحرير، وهي في حقيقتـها إنما افتعلت للتحريك واستـدعاء (الآخر) والوصـول إلى الحـلـول السيـاسيـة، أو كسـب المعـارك الانتخابية، [ ص: 116 ] أو تحقيق الغلبة على الخصـوم، أو بناء الزعـامات العميلة، أو تصفية الحسابات الدولية والإقليمية بدماء الآخرين.
وما أكثر وأسهل صناعة الظواهر السلبية والأزمات، والمعارك المفتعلة، والصدامات المذهبية والمعرفية والطائفية، وإيقاظ الفـتن التاريخـية، واستردادها في إطار الأمم والشعوب المتخلفة؛ لأنها رصيد جاهز بأجسادها وغيبة رؤوسها، وذلك يظهر بشـكل جـلي عندمـا يتخـذ النـاس رؤوسـا جهالا (ولا نعني هنا غير المتعلمين الأبجدية، وإنما نعني غير المتخصصين من الفقهـاء والحكماء والخبراء) فيعـلمون الناس ما لا يعلمون فيفتوا في أدق المسائل فيضلوا ويضلوا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبـض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ) [1] ، ذلك أن الفقـه والعلم والفتوى لا يقتصر على حمل النص الشرعي وحفظه وإنما يتعدى ذلك إلى الوعي والفقه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه ) [2] .
ولعل ذلك يفسر الكثير من المعارك والمواجهات المفتعلة، الثقافية والسياسية والعسكرية، التي تدور رحاها على أرض الإسلام والمسلمين اليوم، حيث نقـدم لهـا الأرض والمـال وحتى الإنسان، وتمارس علينا، وهي أشبه [ ص: 117 ] ما تكون بعقود إذعان بالنسبة لنا، حيث لا خيار لنا فيها؛ لأننا لا نمتلك فيها رأيا ولا إرادة، حتى ولو توهمنا ذلك، والتي لا تكاد تخلو منها بقعة من بلاد المسلمين بشكل أو بآخر.
وقـد لا يتطـلب الأمر كثيرا من النظر لاكتشاف أن معظم الظواهر التي قذفت بـها حقبـة العـولمة، وألحقـت العـدوى والوباء الغريب بالكثير من المجتمعات، بـهدف التمـكين للهيمنة والتسـلط واستيراد الحلول والخبراء، هي ظواهر غريبة عن تربة المجتمع ونسقه الحضاري وتاريخه وقيمـه الدينية وتقاليده الاجتماعية، هي أقرب ما تكون إلى أشباح وأوهام وتخويفات وخيالات وصور بعيدة عن الحقيقة والواقع، ويكفي القول: بأنها مصنوعة لتسوق في بلاد المسلمين، لإنهاك قوتهم، واستنفاد مواردهم، واستمرار تخلفهم وضعفهم وحاجتهم إلى (الآخر).
ففي كثير من الأحيان، وعلى الأخص في مرحلة غيبة الفقهاء والخبراء، أهل العلم والتخصص والبصيرة النافذة، وبروز الخطباء وزعامات الشعارات والحماسات والهوجات والرسم بالفراغ، تختلط الأمور، وتخرج عن السيطرة والإحاطة، ويلفها سوء التقدير، وتقرأ بأبجديات خاطئة، فتأخذ أكبر من حجمها، وتستنفد الطاقات والأوقات، وتكون أشبه بطحن الماء أو طواحين الهواء، وبذلك تتحول المجتمعات، وخاصة المتخلفة، إلى ميادين تجارب واختبار للأفكار والأسلحة وأسواق للاستهلاك، وتتحول من الإبداع والإنتاج والارتقاء إلى الاستيراد والتكديس وإعادة إنتاج التخلف، أي تعيش مرحلة ضلال السعي؛ والإشكالية هنا أنها قد تحسب أنها تحسن صنعا. [ ص: 118 ]
وأخطر ما تفرزه المرحلة، أو الحالة، هي اتخاذ زعامات دينية وسياسية (مرحلة اتخاذ الرؤوس الجهال دون مؤهل، بسبب حزبي أو طائفي أو مذهبي أو عنصري...) من الذين يناط بهم تقديـم الحل وهم في الحقيقة أساس المشكلة؛ هذه المرحـلة الخطيرة تحل بالأمة أو تحتـلها، وعندها يتحول الحل إلى مشـكلة، وعنـدها ما أسهل صناعة الظواهر وإقامة أنصاب وأزلام من أشباح موهومة لإيجاد المسوغات للهيمنة والغزو والاحتلال وتكميم الأفواه وإشاعة الخوف واستدعاء المعاهدات الدفاعية، وبذلك يتحول الاستعمار المكشوف للبعض، المستنفد للموارد والخامات، إلى استعمار مسكوت عنه، مطلوب ومدفوع الأجر، خوفا من حركة الأشباح والأوهام، للحيلولة دون التطرف والإرهـاب، وذلك إنما يكون عندما نصبح لا ندري أن هذا الاستعمار الجديد هو الذي يخوف من الأشباح ويصنع صور التطرف، ويهول من خطرها، ليشكل ذلك مسوغا لوجوده وهيمنته وتحكمه، وبذلك تتحول المواجهة وميدانها وعناصرها لتكون بين الدولة وبين الأمة والشعب، فيزداد الإنهاك، وتهيأ أسباب العنف والتطرف، ونكسر أسلحتنا بأيدينا، ونقع بعلل التدين التي أسقطت الأمم السابقة دون أن نكون أولي بصيرة: ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ) (الحشر:2).
ومـن الأدوات الـتي تعـين على فقـه الظـواهر الاجتمـاعيـة والتـعرف إلى أسبابها، التي قد تغيب في العقل الباطن، أو الوعي الباطني، والتي يتعين التنقيب [ ص: 119 ] عليها ومحاولة استحضارها لفهم الظاهرة ومن ثم كيفية التعامل معها بشكل صحيح: القناعة أولا بأن النظر في أية ظاهرة وإخضاعها للدراسة دون استحضار القيم، التي تشكل المرجعية وتتحكم في سلوك المجتمعات والأمم وجميع إنتاجها الأدبي وأدبياتها في مختلف ميادين الفكر وبناء الحضارات، أي القيم والتقاليد التي تؤمن بها (عالم الأفكار)، ومن ثم النظر في تاريخ هـذه المجتمـعات في مجراه العام، دون التوقف عند بعض النقاط التي يمكن أن تعتبر شاذة أو ناشزة عن هذا المجرى؛ لأن التاريخ هو نوع من تجلي الظاهرة وتجسيدها في الواقع، وبروزها من الخفاء إلى العيان، ومن الفكر إلى العقل، ومن النظرية إلى الممارسة، ومن المبادئ إلى البرامج، فسوف تمنى الدراسة بالفشل.
وليس هذا فقط، وإنما أيضا تتطلب الموضوعية استكمال أضلاع مثلث النظر، وذلك بحسن قراءة الواقع أو الحاضر؛ لأنه مستقبل الماضي، وهو ثمـرة للتـاريـخ، وتحـديد مـكانه بدقـة من التاريخ، ومن منظومة القيم التي تؤمن بها الأمة وتحاكم إليها، ذلك أن الظواهر هي في نهاية المطاف إفراز ثقافي، أو تشكيل ثقافي، أو شاكلة ثقافية لكل من القيم والمرجعيات والتاريخ والتبـادل المعـرفي والثـقافي والتفاعل بين ذلك وبين كل مـكونات الواقـع، هذا إضافة إلى فهم سنن وقوانين الحركة الاجتماعية.
فإذا تبين أن الظاهرة غريبة عن قيم الأمة والمجتمع وتاريخها الطويل، وغريبة عن (عالم أفكارها) بشكل عام، وموروثها وبيئتها الثقافية وتربتها [ ص: 120 ] الحضارية، بكل منتجاتها التاريخية، فهي بلا ريب ظاهرة غريبة، مصنوعة طارئة، أو عارضة، تنتاب الأمم كحالات مرضية، تولدت في تربتها بسبب الضعف والتحـلل والتخـلف والانحـطـاط والـفراغ، الـذي يمكن (الآخر) من الامتداد والعبث بمقدرات الأمة كما يريد، وغياب العلماء العدول الممارسين لحراسة الحقيقة والاستقامة، النافين للغلو والتحريف والتأويل والجنوح بكل أشكاله، القادرين على إعادة الأمة للجادة والبيضاء النقية.
ونعتقد أنه ما من أمة أو حضارة إلا ورافق مسيرتها أنماط من الغلو والتطرف والخروج والتشدد؛ لأنها حالات تنتاب الأمة عند بعض المنعطفات والنكسات وردود الأفعال، وليس الأفعال، لكن في نهاية المطاف تقاس الحضارات بقدرتها على التجاوز والتصحيح والتصالح مع نفسها و (الآخر) والقدرة على محاصرة بؤر الغلو والعنف والتطرف والإرهاب، ونفي نوابت السوء، والتجـدد والتجديد، خاصة عندما تكون المعايير والقـيم فيها ثابتة ومعصومة وخارجة عن وضع الإنسان نفسه، الذي هو محل هذه الظواهر.
والعنف والغلو والإرهاب في المحصلة النهائية ظاهرة ثقافية سـلوكية، تسـكن في الأعماق، وتأتي ثمرة لما تعلمناه ورأيناه، ما شكل ذاكرتنا وصنع مخيلتنا، حيث الثقافة هي، في التعريف النهائي، ما يبقى في عقلنا الباطن من الدوافع والمحركات للسلوك وآلية التعامل مع المواقف، بعد أن ننسى ما تعلمنا. [ ص: 121 ]