من أسباب العنف ومحركاته
- ظاهرة مركبة:
نعـود إلى التأكيد: بأن العنف والإرعاب والتطرف هو ظاهرة إنسانية لا تخص دينا أو جنسا أو لونا أو طبيعـة أو جـغرافيا.. حتى عندما تتوفر لهـا الفلسفـات، التي تعطيها المسوغ، فهي أولا وأخيرا ظاهرة ثقافية مركبة أو معقدة، يساهم بتشكيلها عدة عناصر وأسباب متنوعة لتصبح شاكلة ثقافية: ( قل كل يعمل على شاكلته ) (الإسراء:84) تكمن وراء السـلوك العـدواني على (الآخر) المغاير بسبب أطمـاع ظـاهرة أو خفيـة؛ وأن هذه الظواهر الثقـافية أو الحالات قد يمر بها الأفراد والدول والأمم نتيجة لتوفر ظروف معينة.
لـذلك لا بد -كما أسلفنا- عنـد التعـامل مع الظاهـرة أن ننـظر في الأسباب المنشئة لها، وعدم الاقتصار على معالجة الآثار؛ لأن استمرار الظاهرة وتجذرها وتوضعها سوف يستمر طـالما استمرت الأسباب المنشئة لها، وهذا لا يعني التوقف أو العدول عن معالجة الآثار؛ لأن معالجة الآثار ليس خيارا وإنمـا هو يمثل حالة الإسعـاف الضروري للمريض، لكن لا يمنع ذلك من عرضه على استشاري ينظر في العلاج الناجح والوقاية من المرض والحيلولة دون إزمانه. [ ص: 132 ]
حتى الحل الأمني لظاهرة العنف يبقى مطلوبا كعلاج مؤقت يحول دون امتداد الآثار، حتى ولو لم يشكل حلا، لكن عدم التوازن في التعامل معه وعدم إدراك المسافة بينه وبين حدود حقوق الإنسان قد ينتهي به لأن يكون مشكلة بدل أن يكون حلا.
فالمشكلة أو الإشكالية، أن العنف ظاهرة معقـدة، لا يعود تشكيلها لسبب واحد وإنما لتوفر مجموعة أسباب، سياسية واقتصادية واجتماعية وشرعية وتربوية... إلخ.
أما أن يدمغ الإسلام أو عالم المسلمين أو العالم الإسلامي بالتطرف والإرهاب دون سائر العقائد والأديان والمجتمعات فذلك يعود لمواقف ودوافع هي في أساسها "أيديولوجية"، إلى جانب الدوافع الاقتصادية والسياسية، فهي ليست موضوعية، على كل حال، كما أن الحيلولة دون التفتيش عن الأسباب الحقيقية للإرهـاب هـو نوع من التغطية على المجـرم الحقيـقي، أو المحرك الحقيقي، أو كشف المسبب الحقيقي، حتى أننا نعتقد أن الاقتصار على معالجة الآثار يتحول ليصبح مساهمة سلبية تؤدي إلى إخفاء الجريمة والسماح للعنف بالامتداد.
من هنا يمكن تفسير إشاعة مناخ الإرهاب الفكري، والمساهمة بإيهام كل من يحاول البحث عن السبب أنه يسوغ الإرهاب ويوجد له المبررات، بحيث تصبح المحصلة المساهمة بصناعة الإرهاب، وقد يكون هذا مقصودا [ ص: 133 ] لإيجاد مسوغ للحرب والتدخل والتعسف والهيمنة والعدوان على تاريخ الأمة وثقافتها وعقيدتها ومناهجها... إلخ.
وفي تقديرنا أن علاج ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب، التي بدأت تأخذ شكلا عالميا، والوقاية منها، يتطلب إخضاع هذه الظواهر لدراسات موضوعية ومتأنية غير منحازة، من قبل متخصصين بشعب المعرفة الاجتماعية والإنسانية جميعا، وفي مقدمتها الدراسات الشرعية؛ لأن هذه الظـواهر معقـدة ومركبة، بعيدا عن الحلول والمقترحات الارتجـالية، التي قد لا تخرج من قريب أو بعيد عن الحل الأمني، الذي يعالجها بالسوط بينما يعالجها الحماسيون بالصوت والضجيج والإدانة.
وبالإمكان القول: إن معظم الحلول حتى الآن تقريبا تكاد تنحصر بمعالجة الآثار، لذلك نلاحظ أن ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب دائمة الانفجار ومرشحة للاستمرار.
والحل الأمني المعتمـد لمعالجـة ظـاهرة العنف في بلاد المسلمين ملغم في كثير من الأحيان بمعاداة الإسلام، والمفارقة الخطيرة أن تستخدم له الأسلحة والسـواعد والأموال الإسلامية، الأمر الذي لم يزد العنف إلا ضراوة واشتدادا وامتدادا، بل يمكن القول: إن معالجة العنف بالعنف يمكن أن يتمحض ليكون أحد الأسباب الرئيسة في استدعاء العنف واستمرار المواجهات الدامية، ولا أدل على ذلك مما هو مشهـود في بعض البلاد [ ص: 134 ] الإسلامية، بل في كلها، لكن بأقدار وألوان متفاوتة؛ حيث بطل السحر، وتبين أن الإسلام هو المستهدف في المحصلة النهائية، وأن عالم المسلمين هو ميدان العنف الرئيس، على الرغم من كل الوسائل والحلول الأمنية أو ما يقع في إطارها؛ لأن الإسلام وعالم المسلمين هو الذي اختير العدو البديل لحضارة الصراع، بعد سقوط الماركسية.
ونحن بهذا لا نريد أن نعفي المسلمين أو بلاد المسلمين من ظواهر العنـف والتشدد والغلو والفراغات المذهبية والطائفية والعنصرية، التي يمكن أن تشكل أسبابا يمتد بها (الآخر) وتشكل له رجع الصدى.
فالحقيقة أن ثقافة العنف، أو ظاهرة العنف، هي من الظواهر المعقدة المتراكبة، التي تشترك في تكوينها أسباب داخلية وخارجية، تتضافر جميعا لتشكيل التربة المنبتة للعنف والتطرف والإرهاب والغلو والتشدد.