- الجبت الكهاني:
وقد يكون من الأسباب، أو من الإشكاليات الكبيرة في هذا الجو الأزيم، وما ينشئه من فكر الأزمة وفقه الأزمة (فكر مأزوم)، الذي يغيب بطبيعة الحال العلماء العدول، الذين يرشدون الناس، ويعودون بهم إلى حالة الاعتدال، وينفون عن القيم ما ألحق بها فكر الأزمة من الغلو والتحريف [ ص: 150 ] والتطرف والانتحال، إضافة إلى غياب الفقه الشرعي السليم، وما يستتبعه ذلك من العبث بالأحكام الشرعية وإسقاطها على غير محالها، لتشكل مسوغا للممارسات المتطرفة، وإعطائها غطاء شرعيا.
لذلك، في هذا المناخ المأزوم أو "الأزيم"، كما اصطلحنا على تسميته، يتراجع ويضعف تأثير المؤسسة الدينية بشكل عام والرسمية بشكل خاص، وتتمحض مهمتها في تسويغ أعمال أجهزة القمع والظلم الرسمية، وإعطائها المشروعية والفتوى، وإلا فسوف ينال رجالها ما ينالهم، وبذلك تتحول عن أصل مهمتها لتصبح كـ"رأس بوتين" للسلطة، ومن هنا نقول: بأن الأنظمة الرسمية استطاعت أن تسيس المؤسسة الدينية في الوقت الذي لم تستطع المؤسسة الدينية أن تدين سياسة الدولة، إن صح التعبير، وبذلك فقدت رسالتها وفقدت الكثير من الثقة بها، وعجزت عن القيام بدورها، وكانت السبب الرئيس في انفلات الفقه وقيام الفتاوى الجاهلة التي قد تزكي العنف والتطرف والانحراف.
وليس أقل من ذلك خطورة قيام زعامات دينية في المقابل تركب الأزمات ويقودها الشارع، وتبني زعامتها عليه، وتحاول أن تخطف سلطة الدولة بقوة الشارع.
هذه الزعامات أو القيادات ليست أقل خطـورة في الإقدام على فتاوى خطيرة لإرضاء الشارع، وضمان استمرار الزعامة، ولو كان فيها هلاك أمة؛ [ ص: 151 ] لأن الزعيم الديني هو الأمة، وهو قدر الأمة، فلم يعد بذلك يختلف عن الحزب القائد، والقائد الملهم، والزعيم الأوحد، والبطل القائد، و...؛ اختلاف في العناوين واتفاق في الممارسات والمضامين، ومعـادلة صعبة، باطل يصارع أو يواجه باطلا، والأمة بين حجري الرحى.