المبحث الثاني
أهمية إدراك الواقع
وقتما كان المجتهد جزءا من الحياة يتعامل معها ويحترف بحرفها ويخوض معاركها كان أثر ذلك واضحا في فقهه، أما حينما انفصل عن مجتمعه كانت اجتهاداته نظرية، تنطلق من فراغ، وتسير في فراغ، فأمست جديرة بأن يطلق عليها "فقه الأوراق"؛ لأنها تكونت بعيدا عن واقع الناس وميدان نشاطهم [1] ، ومن هنا كانت أهمية دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي الأدوات والآليات الضرورية لفهم الواقع، وإدراك أبعاد الإنسان، والتعرف على مفاتيح شخصـيـتـه، وطـرائـق تـفـكيره، والأسـبـاب الحـقيقية الكامنة وراء مشكلاته، حتى يمكن بيان آليات التعامل، ومواصفات الخطاب، والأحكام الفقهية المقومة للسلوك [2] .
وقد فرط في إدراك هذا العلم وتحصيله أقوام ضيعوا الحقوق، وجرأوا الفجار على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة دون مصالح العباد، بل وعطلوها [ ص: 45 ] ظنا منهم منافاتـها لقـواعد الـدين [3] ؛ لذا فإن المجـتـهـد: هـو مـن يتـوصـل بـمـعـرفـة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله تعالى ورسوله، كما توصل شاهد يوسف، عليه السلام، بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه [4] ؛ لأن الرجل إذا طلب المرأة كان مقبلا عليها، وإذا هرب منها كان مدبرا عنها [5] .
وكما توصل سليمان، عليه السلام، إلى معرفة عين الأم من المرأتين، اللتين ادعتا الولد بقوله: ائتوني بالسكين أشقه بينكما. فسمحت الكبرى بذلك، وقالت الصغرى: "لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها" [6] فاستدل برضا الكبرى، وبشفقة الصغرى عليه على أنها هي أمه، وأن الدافع لها على الامتناع من الرضا هو ما قام بقلبها من الرحمة، التي وضعها الله تعالى في قلب الأم، وقويت عنده هذه القرينة حتى قدمها على إقرارها [7] . قال النووي: "ولم يكن [ ص: 46 ] مراده أن يقطعه حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها" [8] .
وكما توصل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله للظعينة، التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة [9] لقريـش لما أنـكرته: "لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب" [10] ، إلى استخراج الكتاب منها، وفي ذلك كله اعتماد على الأمارات الظاهرة وشواهد الأحوال [11] ، قال ابن القيم: "فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في جزئيات وكليات الأحكام، أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها. وحكم بما يعلم الناس بطلانه" [12] .
فالاجتهاد لا يقف عند معرفة مراد النص الشرعي وإدراك علته فقط، وإنما يتعدى ذلك إلى مرحلة أخرى وهي تحقيق ذلك المراد في الواقع؛ لأن لأدلة [ ص: 47 ] الأحكام اقتضاءين مختلفين، اقتضاء تجريديا مفصولا عن اقتضاءات الواقع، واقتضاء مركبا من اقتضاء الخطاب الشرعي واقتضاءات الواقع المراد تنزيل النص فيه [13] ؛ ولذا قال الشاطبي: "اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجردا من التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة، وسن النكاح وندب الصدقات غير الزكاة وما أشبه ذلك. والثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا إرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام، أو لمن يدافعه الأخبثان، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي" [14] .
ومما كتبه عمر إلى أبي موسى الأشعري [15] ، رضي الله عنهما: "... الفهم الفهم فيما أدلي إليك، مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، [ ص: 48 ] واعرف الأمثال والأشباه، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى، وأشبهها بالحق..." [16] .
ومن جهة أخرى لا يتأتى فهم النصوص كاملا إلا بالاطلاع على أسباب نزول القرآن الكريم وأسباب ورود السنة النبوية، ومن ثم كانت الدلالة الواقعية من جملة الدلالات، والمقصود بها: معرفة الواقع التنزيلي للنصوص، وهو ضروري لفهم النص [17] ؛ ولذا جعل الشاطبي: "معرفة عادات العرب في أقوالها، وأفعالها، ومجاري أحوالها حالة التنزيل" [18] شرطا لمن أرد الخوض في علم القرآن.
هذا، وإدراك الواقع يمكن أيضا من توظيف القواعد الأصولية والفقيهة للوصول للحكم الشرعي، كقاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقاعدة: يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما، وقاعدة: يحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وقاعدة: الضرر يدفع بقدر الإمكان، وقاعدة: الضرر العام يدفع بالضرر الخـاص، وقاعدة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان...الخ وكل ذلك وغيره لا يتأتى إدراكه إلا بتمام معرفة الواقع، وكمال بحث فيه. [ ص: 49 ]
وعلى ذلك: "لا يتمـكن المفـتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحـدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله عز وجل، ثم يطبق أحدهما على الآخر" [19] ، ومن ثم فلا فقه لنص بلا فقه لمحله، ولا يمكن أن يسمى فقيها حامل النصوص؛ لأن فقه أبعاد التكليف قسيم فقه النص ومكمل له [20] .
قال الشاطبي: "كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين إحداهما: راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، والأخـرى: ترجـع إلى نفس الحكم الشرعي" [21] . وقال ابن تيمية: "لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم" [22] . وقال ابن القيم: "فالواجب شيء والواقع شيء والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب" [23] ، إذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزيل الأحكام عـلى غـير ما وضعت له أو على أكثر أو على أقل مما وضعت له، ويمكن أن يقع تعطيل الحكم مع وجود محله [24] .
[ ص: 50 ]
لذا قال الونشـريسـي [25] : "ولا غـرابة في امتياز عـلم القضـاء عن غيره من أنواع عـلم الفقـه... فتجد الرجل يحفظ كثيرا من الفقه ويفقهه ويعلمـه غيره، فإذا سئـل عن واقعـة لبعض العـوام من مسـائل الصـلاة، أو مسـألة من الأعيان لا يحـسن الجـواب، بل ولا يفهم مراد السائل عنها إلا بعد عسر" [26] .
كما أن توظيف بعض أدلة أصول الفقه الإجمالية يتوقف على إدراك الواقع كالمصلحة المرسلة، والعرف، والقياس، وذلك بالتحقق من ثبوت المصلحة في الواقع، والاطلاع على العادات وإدراكها، ووجود العلة في الفرع وثبوتها؛ لإمكان إجراء علمية القياس. وعلى ذلك: فاعتبار الواقع يؤكد صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويحقق المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، والجهل بالواقع والغفلة عنه يؤدي إلى سيادة الجمود والتحجر والانغلاق، وتغييب سعة الإسلام ورحمته، واندثار مقاصده [27] . [ ص: 51 ]