الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى (الفتوى الاقتصادية نموذجا)

الدكتور / محمد محمود الجمال

الفرع الثالث: التحوط بالبيوع ضد مخاطر عقود الاستثمار:

أولا: التحوط ببيع العربون:

وصـورة بيـع العربون هـو: "أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع درهما أو أكثر على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذ فهو للبائع" [1] .

وقد اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون على قولين:

الأول لجمهور الفـقـهاء، قـال بالمنـع، والثاني للراجـح عنـد الحنابلة وقالوا بالجواز.

وفيما يأتي تفصيل ذلك:

القول الأول: ذهب الحنفية [2] ، والمالكية [3] ، والشافعية [4] ، إلى القول بمنع بيع العربون. [ ص: 157 ]

كما ذهب إلى ذلك أبو الخطاب [5] من الحنابلة [6] .. واسـتـدلوا بـحـديث عمرو بن شعيب [7] عن أبيه عن جده، قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان )

قال النووي عنه: "ومثل هذا لا يحتج به عند أصحابنا، ولا عند جماهير العلماء" [8] . أجاب د. الصديق الضرير: "حديث عمرو بن شعيب ورد من طرق يقوي بعـضـها بعضا، ولأنه يتضمن الحظر، وهو أرجح من الإباحة، [ ص: 158 ] كما تقرر في الأصول" [9] ، ولأنه من أكل أموال الناس بالباطل، وفيه غرر. قال ابن رشد الحفيد: "وإنما صار الجمهور إلى منعه؛ لأنه من باب الغرر والمخاطرة، وأكل المال بغير عوض" [10] .

القول الثاني: ذهب جمهور الحنابلة [11] إلى القول بجواز بيع العربون.

واستدلوا بحديث زيد بن أسلم [12] : ( أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحله ) قال ابن رشد: "قال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " [13] . [ ص: 159 ]

كما اسـتـدلوا بـما روي عن نافـع بن عبد الحـارث [14] أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية [15] ، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا. قـال الأثرم [16] : قلـت لأحمـد: تذهـب إليـه؟ قـال: أي شـيء أقـول؟ هذا عمر رضي الله عنه " [17] .

يتبين مما سبق أن العربون بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع كان من الثمن، وإذا رد البيع فقد العربون، فهو خيار شرط يقابله مال في حال الرد، وقد منعه جمهور الفقهاء كما سبق، وأخذ بذلك شركة الراجحي، وعامة البنوك الإسلامية بالسودان...الخ. [ ص: 160 ]

وقد نص مجمع الفقه الإسلامي [18] بشأن بيع العربون في القرار رقم 72( 3 / 8 ) على أنه : "... لا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة".

والحقيقة أن قرار المجمع كان دقيقا؛ لأنه فرق بين المواعدة وبين التعاقد، فمنع في الأولى وأجاز في الثانية، فقال: "يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود. ويحتسب العربون جزءا من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء".

وعليه، فلابد أن تقيد فترة الانتظار بزمن محدد حتى يقل الغرر، وقد اشترط فوق ذلك د. سامي السويلم، شرطين لتقليل الغرر:

أولهما: أن يكون مقدار العربون أقل من هامش الربح المعتاد، حتى يضمن خسارة قليلة محتملة فيما لو تم الإلغاء.

ثانيهما: أن يغلب على الظن اختيار لزوم العقد. وقال: "فبيع العربون يدخل في الغرر الفاحش إذا لم يكن الغالب على الظن الإتمام، أو كانت مصلحة البائع في الإلغاء أكبر من مصلحته حال الإتمام أو مساوية لها" [19] . [ ص: 161 ]

وبعد،

فنميل إلى القول بالجواز؛ لحاجة المصارف والمؤسسات بل والأفراد إلى استخدام هذه الصيغة، لكن يخصم فقط قيمة الضرر، الذي وقع عليه ويرد له الباقي وهو ما يسمى في العرف المصرفي بـ"هامش الجدية".

ثانيا: التحوط بالسلم بسعر السوق وقت التسليم:

إن المشتري في عقد السلم قد دفع الثمن معجلا في مقابل تخفيض ثمن المسلم فيه عن ثمنه المتوقع له عند التسليم، وفي المقابل فإن البائع يستفيد من تعجيل الثمن، ويرتفق بهذا التعجيل فينفق على نفسه وعلى زرعه وثماره حتى تكتمل في مقابل تخفيضه ثمن المسلم فيه عن ثمنه المتوقع له عند التسليم؛ ولهذا السبب أطلق بعضهم على هذا النوع من البيوع "بيع المحاويج" بالنظر لحاجة كل من طرفي العقد إليه [20] .

وعقد السلم لا يخلو من المخاطرة؛ لأنه ليس من الضروري أن يكون للأجل في تسليم المسـلم فيـه أثر في تـخفيـض سعـره عن سعـر يوم التسليم بل الغالب أو المتوقع ذلك. بيد أن الارتفاع أو الانخفاض الكبير للأسعار يوقع الضرر بأحد [ ص: 162 ] المتعاقدين في عقد السلم لا محالة، فعند الارتفاع الكبير لسعر المسلم فيه يقع الضـرر على عاتـق البائـع؛ لأنه يشـتـريه بثـمـن أكبر بكـثـير من الثمن المتوقع عند التسـليم، ولو انـخفـض السعر كثيرا فالضرر واقع على المشتري؛ لأنه كان يتـوقع الربـح بتعجيلـه لرأس المـال. والسؤال: هل يمكن التحوط لمخاطر رأس المال تلك؟

اقترحت صيغة السلم بسعر السوق يوم التسليم كأهم وسيلة للتحوط لمخاطر رأس المال:

وصورتـها: أن يسـلم في سلعـة موصوفة في الذمة ببدل يعطى عاجلا أو بثمن مقبوض في مجلس العقد، لكنه لا يحدد مقدار أو كمية المسلم فيه، وإنما يترك تحديده تبعا لسعر السوق وقت التسليم، أو أنقص منه بنسبة معلومة حسب ما يتفقان عليه عند التعاقد.

كأن يتفقان على أن يدفع المشتري في مجلس العقد مبلغ 5000 (خمسة آلاف ريـال) في أرز بلدي (موصوف في الذمة)، يحدد سعره بسعر السوق عند التسليم في أول أكتوبر القادم (الأجل معلوم) مخصوما منه 10%. فلو افترضنا أن سعر الطن 500 ريـال في السوق وقت التسليم، يحسب له بـ450ريـال فتكون الكمية معادلة ثمن السلم مقسوما على هذا السعر، فتحدد وقتئذ كمية المسلم فيه الواجبة التسليم. وبهذا تتحقق مصلحة المتعاقدين معا، وينتفي الغرر حتى في المسلم فيه، الذي تتحدد كميته وقت التسليم. [ ص: 163 ]

جاء في جامع المسائل عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "مسألة: في رجل استلف من رجل دراهم إلى أجل على غلة، بحكم أنه إذا حل الأجل دفع إليه الغلة بأنقص مما تساوي بخمسة دراهم، فهل يحل أن يتناول ذلك منه على هذه الصفة أم لا؟

الجـواب: إذا أعـطـاه عن البيـدر كل غـرارة بأنـقـص مـما يبيعـها لغيـره بخمسة دراهم وتراضيا بذلك جاز، فإن هذا ليس بقرض، ولكنه سلف بناقص عن السعر بشيء، وقدر هذا بمنزلة أن يبيعه بسعر ما يبيعه الناس أو بزيادة درهم في كل غرارة أو نقص درهم في كل غـرارة. وقـد تنازع النـاس في جـواز البيـع بالسـعر، وفيه قولان في مذهب أحمـد، والأظـهر في الـدليل أن هـذا جـائز، وأنـه ليـس فيه حـظر ولا غدر؛ لأنه لو أبـطـل مثـل هـذا العقد لرددناهم إلى قيمة المثل، فقيمـة المثل التي تراضوا بـها أولى من قيمـة بمثـل لم يتراضيا بـها. والصـواب في مثل هـذا العقـد أنه صحيـح لازم... ومنـهم من قال: إن ذلك لا يلزم، فإذا تراضيا به جاز" [21] .

ومن الجدير بالذكر أن دولة السودان لما عانت من مشكلة التضخم، اتجهت إلى تقليل كمية المسلم فيه الواجب تسليمها تـحت "بند الإحسان" إذا زادت أسعار المسلم فيه في حدود ثلث الثمن. [ ص: 164 ]

وقد اشترط د. سامي السويلم، لجواز هذه الصورة شرطين [22] :

أولهما: تحقق قبض المسلم فيه عند الأجل، فلا يصح توكيل المدين ببيع المسلم فيه وتسليم الثمن للدائن، حتى لا ينتهي الأمر إلى نقد حاضر بأكثر منه مؤجلا.

ثانيهما: توافر المسلم فيه عند أجله، حتى يمكن التسليم مع افتراض زيادة الكمية في حالة انخفاض سعر السوق، وإلا وقع النزاع الذي احتيط لرفعه.

وبعد،

فنرى أن التحوط لمخاطر السيولة بالسلم الموازي كاف للتحوط لمخاطر رأس المال؛ لأن هذه الصيغة ذريعة إلى الربا المحرم؛ وفيها مخالفة واضحة لحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون في الثمر، فقال:

( من أسلف، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) [23] . [ ص: 165 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية