الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى (الفتوى الاقتصادية نموذجا)

الدكتور / محمد محمود الجمال

المطلب الثاني

ضمان المصرف للأضرار الناشئة عن سوء استثمار أموال العملاء

وأهدف إلى التعرف على الفتوى المتعلقة بمدى مسؤولية البنك عن الأضرار الناشئة عن سوء استثمار أموال العملاء، وحدود مسؤوليته.

ولهذا يمكن تقسيم هذا المطلب إلى فرعين:

الفرع الأول: الضمان المصرفي: مفهومه، أسبابه.

الفرع الثاني: حكم اشتراط ضمان ودائع الاستثمار.

وفيما يأتي تفصيل ذلك: [ ص: 109 ]

الفرع الأول: الضمان المصرفي: مفهومه، أسبابه:

أولا: مفهوم الضمان المصرفي:

يطلق الضمان في اللغة على معان: منها الالتزام، تقول: ضمنت المال، التزمته [1] ، ومنها: الكفالة، تقول: ضمن الشيء إذا كفله. ومنها التغريم، تقول: ضمنته الشيء تضمينا فتضمنه عني: غرمته فالتزمه [2] .

أما في اصطلاح الفقهاء فيطلق على المعاني التالية [3] :

أ- يطلق على كفالة النفس وكفالة المال عند جمهور الفقهاء من غير الحنفية.

ب- ويطلق على غرامة المتلفات والغصوب والتعييبات.

ج- كما يطلق على ضمان المال، والالتزام برد مثله بعقد كالقرض، وبغير عقد نحو ما أتلفته العجماء.

د- كما يطلق على ضمان الملك، جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي: "ما خرج من الشيء: من غلة، ومنفعة، وعين، فهو للمشتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك، فإنه لو تلف المبيع كان من ضمانه، فالغلة له، [ ص: 110 ] ليكون الغنم في مقابلة الغرم" [4] . ومن ذلك قولهم بعدم جواز بيع ما لم يضمن فهو ضمان بمعنى تحمل مخاطر الملك.

هـ- كما يطلـق على التـزام النقـص في وضـع اليد على المال، بغير حق أو بحق عند بعضهم على العموم.

و- كما يطلق على ما يجب بإلزام الشارع، بسبب الاعتداءات: كالديات ضمانا للأنفس، والأروش ضمانا لما دونها، وكضمان قيمة صيد الحرم، وكفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار عمدا في رمضان.

وقد وضعت له تعاريف متعددة، تتناول بعض هذه الإطلاقات أو تتناول الإطلاقات جميعها في الجملة، ومن الأخير تعريف زكريا الأنصاري [5] : "يقال لالتزام حق ثابت في ذمة الغير، أو إحضار من هو عليه، أو عين مضمونة، ويقـال للعقـد، الـذي يـحصل به ذلك" [6] وهذا التعريف شامل للكفالة [ ص: 111 ] غير أنه لا يشتمل فيما يبدو على ضمان الملك. ومن الأول جاء تعريف الشوكاني [7] بأنه:

"عبارة عن غرامة التالف" [8] ، وكذا تعريف المادة رقم (416) من مجلة "الأحكام العدلية"، بأنه: "إعطاء مثل الشيء إن كان من المثليات، وقيمته إن كان من القيميات، أي في الغصب والإتلاف" [9] . وعرفه المالكية: "شغل ذمة أخرى بالحق" [10] .

أما المقصود بضمان المصرف: فهو تحمله مسؤولية رد رأس المال النقدي إلى رب المال في كل حال، سلم رأس المال أو لم يسلم. والأمر ليس كذلك في البنك الإسلامي؛ لأن أموال المودعين في المصرف الإسلامي على نوعين؛ قروض في الحسابات الجارية، ومضاربات استثمارية في حسابات التوفير [ ص: 112 ] والودائـع لأجـل، فـيـد البنك على المال في النوع الثاني، يد أمانة، والأمين لا يضمن المال إلا إذا تعدى أو قصر. أما غير ذلك من الحالات ففي الجملة لا يضمن المصرف الإسلامي.

ثانيا: أسباب الضمان:

الضمان أثر من آثار الالتزام، وهو يكون بإتلاف مال الغير أو بالتفريط وترك الحفظ أو بالتعدي في الاستعمال المأذون فيه.

قال الكاساني [11] : "بيان ما يغيره [أي: المستأجر] من صفة الأمانة إلى الضمان، فالمغير له أشياء منها: ترك الحفظ؛ لأن الأجير لما قبض المستأجر فيه فقد التزم حفظه، وترك الحفظ الملتزم سبب لوجوب الضمان ... ومنها الإتلاف والإفساد إذا كان الأجير متعديا فيه" [12] .

كما جعل المالكية أسباب الضمان ثلاثة:

أحدها: العدوان كالقتل والإحراق وهدم الدور وأكل الأطعمة وغير ذلك من أسباب إتلاف المتمولات. وثانيها: التسبب للإتلاف كحفر الآبار في طرق [ ص: 113 ] الحيوان في غير الأرض المملوكة للحافر. وثالثها: وضع اليد غير المؤتمنة، كقبض المبيع أو بقاء يد البائع. [13]

قال ابن رشد: "وأما الموجب للضمان، فهو إما المباشرة لأخذ المال المغصوب أو لإتلافه، وإما المباشرة للسبب المتلف، وإما إثبات اليد عليه". [14]

وأيضا جعل الشافعية [15] والحنابلة [16] أسباب الضمان ثلاثة:

أحدها: العقد، كالمبيع والثمن المعين قبل القبض والسلم.

ثانيها: اليد، مؤتمنة كانت كالوديعة والشركة إذا حصل التعدي، أو غير مؤتمنة كالغصب.

ثالثها: الإتلاف، نفسا أو مالا. وزاد الشافعية: الحيلولة، كما لو نقل المغصوب إلى بلد آخر، فـللـمـالك المطـالبة بالقيمة في الحال، للحـيلـولـة قطعا، فإذا رده ردها [17] . [ ص: 114 ]

وعلى ذلك: فالمخاطر المسؤول عنها المصرف هي مخاطر العنصر البشري، وهي التي ترتبت بسبب الإهمال أو التقصير أو تعدي إدارة المصرف. وذلك كأن يدخـل المـصـرف في عملية استـثـمـارية قبل القيام بدراسة جيدة عنها أو خبرة ودراية بها، أو يضارب بأموال أصحاب حسابات الاستثمار مع عملاء لم يتأكد البنك من حسن أخلاقهم ومتانة ذممهم وقدراتهم على الاستثمار السليم وتوليد الأرباح المرجوة وكذلك دقة نظامهم والتزامهم بأصول وأعراف تجارتهم والأصول المحاسبية وتقديم التقارير المطلوبة في أوقاتها وسداد المبالغ والحصص المطلوب سدادها في مواعيدها.

ولذا قال الإمام مالك: "لا أحب للرجل أن يقارض رجلا لا يعرف الحلال والحرام، وإن كان رجلا مسلما، فلا أحب له أن يقارض من يستحل شيئا من الحرام في البيع والشراء" [18] ؛ وذلك لأن القيم الإيمانية والأخلاقية والسلوكية تتفاعل مع الكفاءة الفنية والمالية للحد من مخاطر الاستثمار [19] .

كما قد يدخل المصرف في عملية استثمارية مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية أو لقوانين الدولة كالمتاجـرة بسلـع أو خـدمات أو أعمال محرمة [ ص: 115 ] لا تتـفـق مع أحـكام الشريعة الإسلامية، أو يرتكب المتعامل بعض المخـالفات القـانونية مما قد ينتج عنها إيقاف أو إلغاء نشاطه من قبل الجهات الحكومية [20] .

وكذا فهـو مسؤول عن "مخاطر التركز الاستثماري" والتي تنشأ نتيجة عدم تنويع استثمار الأموال في صيـغ الاستثمار المختلفة، أو تركيز الاستثمارات مع متعامل واحد أو نشاط واحد أو منطقة جغرافية واحدة أو في تواريخ استحقاق العائد [21] .

وأيضا "مخاطر نقص الضمانات المقدمة من العملاء"؛ لعدم استيفاء الضمانات المتعارف عليها أو عدم خلوها من الموانع (قيود أو رهونات - امتياز للآخرين)، أو المبالغة في تقويمها، أو صعوبة تسويقها من قبل المصرف في حالة تسييلها أو صعوبة تخزينها أو تغليفها أو نقلها، أو ارتفاع التكاليف اللازمة لذلك [22] .

وطبقا لأحـكام الشريعـة يتحمـل المصرف الإسلامي وحده خسائر هذه المخاطر في حالة حدوثها، إذا كانت بسبب تقصير أو تعدي من جانبه، ولا يشترك معه فيها أصحاب حسابات الاستثمار. [ ص: 116 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية