الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى (الفتوى الاقتصادية نموذجا)

الدكتور / محمد محمود الجمال

المطلب الثاني

إدراك النبوة لمهارات الصحابة، رضوان الله عليهم

الاختلاف في الاستعدادات والمـواهـب أسـاس النظام وبقـاء الحضـارة، فلو خلق الناس على استعداد واحد لانفصم النظام وتقوضت أركانه. قال الإمام علي رضي الله عنه : "لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا استووا هلكوا". فمقتضى حكمة الله عز وجل خلق الناس بمواهب مختلفة كي يقوم كل حسب استعداده، ومثل هذا يؤكد الحكمة ولا ينافي العدل [1] . وهذا يوجب على المسؤولين وصناع القرار التعرف على المواهب والاستفادة منها وإلا وسدوا الأمر إلى غير أهله. قال ابن مسعود رضي الله عنه : "إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إلي من الصوم" [2] . وقال قيس بن أبي حازم [3] : سمعت خالدا يقول: "منعني الجهاد كثيرا من القراءة" [4] . [ ص: 65 ]

وقال ابن عبد البر [5] : "لا يفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها [أي: أعمال البر] وأن مـن فتح له في شيء منها حـرم غـيرهـا" وحـكى: "أن عبدالله بن عبد العزيز العمري [6] العابد كتب إلى مالك يحضه إلى الانفراد والعمل ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك أن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة. ونشر العلم وتعليمه مـن أفضـل أعمـال البر. قد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه [ ص: 66 ] وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له، والسلام. هذا معنى كلام مالك لأني كتبته من حفظي" [7] .

وقال ابن القيم: "ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره. ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أوراده. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه. ومنهم من يكون طريقه، الذي نفذ فيه الحج والاعتمار. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة" [8] .

ومن هنا، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم علوم وفنون ومهارات من حوله، ومن ثم استطاع بتوفيق من الله توظيف كل ذلك في بناء الدولة، وأبان للأمة أروع تلك المهارات حتى يمكنها الانتفاع بها والاستفادة منها: فقال صلى الله عليه وسلم : ( أرحم أمتي [ ص: 67 ] بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينا، ألا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) [9] .

وقال أيضا: ( ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، من رجل أصدق لهجة من أبي ذر ) [10] .

وقال: ( عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما ) [11] . ودخل عمار رضي الله عنه على علي رضي الله عنه ، فقال: مرحبا بالطيب المطيب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ملئ عمار إيمانا إلى مشاشه" [12] .

وعلى ذلك: فمن يستعرض السيرة النبوية الشريفة يجد النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس حسب أفهامهم، ويعاملهم ويخاطبهم حسب قدراتهم، كما كان يراعي أحوالهم في المنشط والمكره، ويعتبر حاجاتهم، ويرأف بهم، وييسر عليهم، ويرفع عنهم الحرج. [ ص: 68 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية