الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى (الفتوى الاقتصادية نموذجا)

الدكتور / محمد محمود الجمال

الفرع الثالث: مدى إمكانية الاقتطاع من الفائض التأميني للجهة المديرة على إدارتها أو مع نسبة من مبلغ الاشتراكات:

من المعلوم أن الفائض من عمليات التأمين الإسلامي يأتي تبعا لا قصدا؛ لأن القصـد هو التعـاون بين المشتركين في تـحمل الأخـطار وتوزيعها بينهم، أما الفائض فيعتبر تبعا للتعاون؛ ومقتضى وجوده يعني إما أن الاشتراكات كانت أكثر مما يلزم للحوادث، التي حصلت واقعا أو أن المطالبات قد حيف في سدادها قصدا أو بغير قصد. ومن المقرر أنه يتسامح ويتساهل في الأشياء [ ص: 105 ] إذا كانت تابعـة ما لا يتسـامح ويتساهل فيها لو كانت متبوعة أو مقصودة في أنفسـها. ولـذا قعـد بعضـهم لهـذا المعنى بقوله: "يغتفر في الشيء ضمنا ما لا يـغـتـفر فيه قـصـدا"، وقـريـب مـنـها: "يـغـتـفر في الـتـوابع ما لا يغتفر في غيرها" [1] .

ويـعـتـبر الـفـائـض التـأميـني حـق خاص بحملة الوثائق، كما سبق بيانه، ولا تستحق الشركة المديرة لأعمال التأمين شيئا منه، لا على سبيل الأجرة (نسبة من الاشتراكات ) مقابل إدارة التعاون التأميني، ولا مقابل جهدها في الاستثمار، الذي أخذته أيضا نسبة من الأرباح أو أجرة مقطوعة حسب الاتفاق؛ لأنه إذا أخذ بصفة الأجرة لإدارة أعمال التأمين فيجب أن تكون معلومة علما نافيا للجهالة والغرر؛ لأنها عوض في عقد معاوضة كالثمن في البيع، وقد اتفق الفقهاء على اشتراط هذا الشرط في عقد الإجارة، فلا يصح كونها مجهولة، كما في هذا الوعاء أو ما في هذه اليد؛ لأنها مدعاة للخصام والنزاع، وقد جاءت الشريعة لإزالة أسبابهما.

والأصل في اشتراط العلم بالأجرة قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من استأجر أجيرا فليعلمه أجره ) [2] ، والعلم بالأجرة تكون برؤيتها إن كانت حاضرة، أما إن [ ص: 106 ] كانت غائبة فيلزم معرفة جنسها وقدرها وصفتها، أو معرفة جنسها وعددها إذا كانت نقدا، وكذلك معرفة الأجل إذا كانت مؤجلة. ومما يتفرع على شرط العلم بالأجرة: أنه لو استأجر إنسان شخصا بأجر معلوم وبطعامه لم تجز الإجارة؛ لأن الطعام يصير أجرة، وهو قدر مجهول، فكانت الأجرة مجهولة. قال السرخسي [3] : "وجهالة الأجرة تفسد الإجارة" [4] .

وعليـه، فأعمال التأمين، التي تـقـوم بها شكة التأمين على أسـاس عقد الإدارة، كقبض الاشتراكات والصرف على التعويضات، تستحق أن يدفـع مقابلها أجرة معلومة، ولا يصح أن تكون مجهولة كما في الفائض التأميني أو نسبـة منه؛ لأنه مجهول في البداية، قد يوجد وقد لا يوجد، وإذا وجد فلا يعلم قدره.

هذا، وتقوم شركة التأمين التعاوني باستثمار أموال المساهمين، إضافة إلى قيامها باستثمار الأموال المتجمعة من أقساط حملة الوثائق، وتحصل الشركة بموجب ذلك على الأرباح المحققة من استثمار أموال المساهمين إضافة إلى حصتها من استثمار أموال حملة الوثائق بصفتها مضاربا أو وكيلا بأجر، فهل يمكن منح المساهمين نسبة من الفائض التأميني؟ [ ص: 107 ]

لا يجوز أن يؤخذ شيء من الفائض مقابل استثمار الأقساط؛ لأن مقابل الاستثمار يجب أن يكون نسبة معلومة من الأرباح المتحققة أو أجرة معلومة، وذلك بأن يكون نصيب المتعاقدين جزءا شائعا يتفقان عليه كالنصف مثلا؛ لأن مقتضى العقد الاشتراك في الربح. وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، فوجب معلومية الربح، والفائض التأميني ليس ربحا باتفاق، كما أن العجز ليس خسارة؛ لأن العملية التعاونية ليس فيها مجال للربح أو الخسارة، وهي ليست مضاربة؛ لأنها لا تتضمن استثمارا ولا مبايعات، وأخذ حصة من الفائض ليس له وجه حق، وإن وجد في العقد فهو عقد إذعان، وبخاصة مع الحاجة الكبيرة للتأمين والإلزام به في كثير من الأحيان.

وأيضا سدا للذريعة، لا سيما وتربح شركة التأمين أو مديريها من الفائض التأميني يجعلها في الغالب تحيف على أصحاب الوثائق عن طريق زيادة الاشتراكات أو إنقاص ما قدر دفعه عند وقوع الأخطار المؤمن عليها، وفي ذلك إضرار بالفائض، والمقصود صونه لمصلحة المشتركين.

وعلى ذلك: فلا يجوز إعطاء أي شيء من الفائض للجهة المديرة على إدارتها، أو مع نسبة من مبلغ الاشتراكات، فلا يكون لشركة التأمين ومساهميها والإداريين القائمين عليهـا سوى أجر مـعـلـوم مقابل ما يقومون به من الإدارة أو كوكيل للاستثمار أو على جزء مشاع من الأرباح الحاصلة من عملية الاستـثـمار مقابل إدارة الاستـثـمار، أما ما قيل باعتباره من الحافز أو الهدية فلا يقبل، وذلك لكون التبرع يكون على سبيل المسامحة، وهذا غير موجود من قبل حملة الوثائق. [ ص: 108 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية