الخاتمة
بعد استعراض موضوع الدراسة، انتهيت إلى ما يلي:
أولا: يعنى بفقه الواقع: "العلم بحقائق الأشياء، وعلاقات الأفراد بالقدر، الذي يمكن الفقيه من تصور محل الحكم". أما ما وراء ذلك فليس واجبا عليه إدراكه، بل يبقى وجوبه على المتخصصين في تلك الفنون من ناحية فرض الكفاية.
ثانيا: تسعف المصادر التبعية للشريعة الغراء، ومقاصدها، وقواعدها الفقهية في تجلية بعض الجوانب المساعدة على ضبط منهجية التعامل مع الواقع، وذلك من خلال قاعدة: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، وقاعدة: "اعتبار مآلات الأفعال"، وقاعدة: "مراعاة أخف الضررين"، وقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة"، ثم الالتفات إلى المصالح والأعراف والذرائع، وأخيرا حسن التعامل مع الواقع.
ثالثا: لا يقف الاجتهاد عند معرفة مراد النص الشرعي وإدراك علته فقط، وإنـما يتعدى ذلك إلى تحقيـق ذلك المـراد في الواقع، ومن جهة أخرى لا يتأتى فهم النصوص كاملا إلا بالاطلاع على أسباب نزول القرآن الكريم وأسباب ورود السنة النبوية، ومن ثم كانت الدلالة الواقعية من جملة الدلالات، كما أن إدراك الواقع يمكن أيضا من توظيف القواعد الأصولية والفقهية للوصول للحكم الشرعي. [ ص: 166 ]
رابعا: احتل الواقع مكانة كبيرة في السنة النبوية المشرفة، ومن أبرز الدلائل على ذلك: أجوبته صلى الله عليه وسلم المختلفة عن السؤال الواحد المتكرر، وإدراكه لمهارات الصحابة، رضوان الله عليهم، كذا الدبلوماسية النبوية؛ ولهذا خاطب الناس حسب أفهامهم، وعاملهم حسب قدراتهم، وراعى أحوالهم في المنشط والمكره.
خامسا: ضرورة إدراك واقع القضايا الاقتصادية المعاصرة لإمكانية إصدار المفتي فتواه بطريقة صحيحة لا إفراط فيها ولا تفريط، ومن ثم اخترت أهم هذه القضايا كنموذج لدراسة واقعها والانتهاء فيها إلى فتوى مناسبة، وقد انتهيت إلى ما يأتي:
بخصوص قضية "ضمان المصرف للأضرار الناشئة عن سوء استثمار أموال العملاء" انتهيت إلى:
1- المخاطر المسؤول عنها المصرف الإسلامي هي: مخاطر العنصر البشري، وهي التي ترتبت بسبب الإهمال أو التقصير أو تعدي إدارة المصرف، وطبقا لأحكام الشريعة يتحمل المصرف الإسلامي وحده خسائر هذه المخاطر في حالة حدوثها إذا كانت بسبب تقصير أو تعدي من جانبه، ولا يشترك معه فيها أصحاب حسابات الاستثمار.
2- يد الوكيل المضارب يد أمانة. ويد الأمانة لا تغرم إلا في حالات التعدي أو التقصير، فلا يمكن من الوجهة الشرعية مساءلة البنك الإسلامي [ ص: 167 ] عن خسـائر الاستثـمار في حسـابات الودائع الاستثمارية طالما أنه لم يتعد ولم يهمل أو يقصر.
3- التعدي، الذي يستدعي ضمان المضارب يكون في حالات مخالفة العقد مع أرباب الأموال، أو مخالفة الأعراف المصرفية في أعمال المصرف ونشاطاته الاستثمارية وبخاصة ما يتعلق بما يسمى شروط الحكمة في الاستثمار، أو مخالفة تعليمات المصرف المركزي أو السلطة الرقابية الإشرافية على البنك الإسلامي، أو عدم القيام بعمل كان ينبغي أن يعمل حسب قواعد التعامل المصرفي المتعارف عليها.
4- اختلف الفقهاء في حكم اشتراط الضمان على الأمين، وذلك على قولين: الأول: ذهب إلى بطلان الشرط؛ لمنافاته لمقتضى العقد. والثاني: ذهب إلى أن الأمين قد رضي التزام ما لم يلزمه. لكن نرجح عدم جواز اشتراط الضمان؛ لأنه من الشروط الفاسدة، التي تخالف مقتضى العقد.
وبخصوص قضية "تداول صكوك الإجارة الموصوفة في الذمة" انتهيت إلى:
حرمـة تداول صـكوك إجـارة المـوصوف في الذمة قبل تعيين محل الـعـقـد؛ وذلك لأن مـالك الصـك يبـيـع مـا ليس بيـده من المنفعة الموصوفة في الذمة، وقد لا يقدر على تسليمها، وذلك غرر لا يجوز، وكذا لئلا يربح فيما لم يضمن. [ ص: 168 ]
وبخصوص قضية "توزيع الفائض في شركات التأمين الإسلامي" انتهيت إلى:
1- الفائض التأميني لا يعد ربحا؛ لأنه لم ينتج من معاوضة، ومن ثم فهو زيادة في التحصيل في حساب هيئة المشتركين، والأصل فيه أن يكون متوازنا بمعنى أن تتساوى إيراداته مع مصروفاته دون زيادة ولا نقصان، وهذا يتطلب دقة تحديد مبالغ الاشتراكات من إدارة الشركة بناء على تقدير الخبراء والحسابات الاكتوارية ونحوها، غير أن هذا الوضع نادر الحدوث.
2- يعد الفائض التأميني من حق حملة الوثائق؛ إما تحقيقا للشرط في هبة الثواب، وإما أثرا من آثار التعاون، وهو ما أرجحه لما سبق بيانه.
3- الاحتفاظ ببعض الفائض التأميني لمواجهة مخاطر العجز في صندوق التأمين التعاوني أو لمواجهة مخاطر الكوارث الطبيعية يقوي الملاءة المالية لصندوق التأمين التعاوني، ويحميه من اللجوء إلى الاقتراض من أموال المساهمين، ويعزز التعاون وهو الأساس، الذي يقوم عليه التأمين التعاوني، ويؤدي إلى نجاح النشاط التأميني وتواصله في المستقبل. ولعل هذا يستدعي موافقة حملة الوثائق على ذلك؛ لأن الفائض من حقهم، الأصل أن يقسم بينهم أو ينفق على مصالحهم، لا سيما والفائض لا يكون إلا بعد استيفاء جميع الاحتياطات الفنية ومنها احتياطي المخاطر المتوقعة.
4- لا يـجوز إعطاء أي شيء من الفائض للجهة المديرة على إدارتها، أو مع نسبة من مبلغ الاشتراكات، فلا يكون لشركة التأمين ومساهميها [ ص: 169 ] والإداريين القائمين عليها سوى أجر معـلوم مقـابل ما يقومون به من الإدارة أو كوكيل للاستثمار أو على جزء مشاع من الأرباح الحاصلة من عملية الاستثمار مقابل إدارة الاستـثـمار، أما ما قيل باعتباره من الحافز أو الهدية فلا يقبل، وذلك لكون التبرع يكون على سبيل المسامحة، وهذا غير موجود من قبل حملة الوثائق.
وبـخصوص قضية "عمليات التحوط في المصرفية الإسلامية" انتهيت إلى:
1- المقصود بالتحوط المالي: تحييد المخاطر وتقليصها ونقلها وإدارتـها، أو هو حماية رأس المال باستخـدام الوسـائل المتاحـة للوقـاية من الخسـارة أو النقصان أو التلف.
2- تخفيف المخاطر بالوسائل المشروعة عند القيام بتنمية المال واستثماره مطلب شرعي؛ ولذا ندب الشارع إلى الاستيثاق والاحتياط بكتابة الدين والإشهاد عليه؛ لأن فيه حفظا للمال، وحفظه من مقاصد الشرع.
3- يعنى بضمان الطرف الثالث: أن يتقدم طرف أو هيئة، مستقلة عن علاقة وعقد المضاربة بين رب المال والمضارب ومستقلة عن المضارب، بضمان رأسمال المضاربة. فإذا ما دخل رب المال في المضاربة بناء على هذا الوعد يصبـح الطرف الثـالث الواعد عندئذ ملزما تـجاه رب المال بـهذا الضمان. أما الأساس الشرعي لضمان الطرف الثالث فهو التبرع المحض.
4- لا نميل إلى القول بجواز التحوط بتطوع أحد العاقدين بضمان خسارة رأس المال؛ لأن من تمسك بجوازها اعتمد على قول من جوزها من [ ص: 170 ] فقهاء المالكية، وسبق أن أوضحنا أنه قول مرجوح في المذهب. ثم إن المقصود أننا نحتاط للعقود قبل الدخول فيها وأثناء التعاقد، أما بعد التعاقد فلا وجه للتحوط، فالعقد قد تم، والمطلوب من المصرف أن يقوم بدوره المنصوص عليه في العقد، لا أن يدفع العميل إلى التبرع بالضمان.
5- لا أميل للقول بجواز الضمان بالتداول اليومي المبرمج، لأننا لو كيفناه على أنه عقد وشرط فهو ممنوع؛ وإن كان مدير الاستثمار مغرورا في علاقته مع مدير البرنامج، فضلا عن الدخول في مدى مشروعية الاستثمار في السندات، أو الاستثمار غير المجدي، وترك أدوات الاستثمار المجدية. وفي الحقيقة هذه الصيغة في التحوط قليلة الجدوى، ولهذا لا تستخدمها المصارف الإسلامية.
6- نميل إلى القول بجواز التحوط ببيع العربون؛ لحاجة المصارف والمؤسسات بل والأفراد إلى استخدام هذه الصيغة، لكن يخصم فقط قيمة الضرر، الذي وقع عليه ويرد له الباقي وهو ما يسمى في العرف المصرفي بـ"هامش الجدية".
7- نرى أن التحوط لمخاطر السيولة بالسلم الموازي كاف للتحوط لمخاطر رأس المال؛ لأن التحوط بالسلم بسعر السوق وقت التسليم ذريعة إلى الربا المحرم؛ وفيه مخالفة واضحة لحديث ابن عباس، رضي الله عنهما:
( من أسلف، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم )
وبالله تعالى التوفيق. [ ص: 171 ]