الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى (الفتوى الاقتصادية نموذجا)

الدكتور / محمد محمود الجمال

المطلب الرابع

عمليات التحوط في المصرفية الإسلامية

وأهدف إلى التعرف على الفتوى المناسبة لحكم ضمان الطرف الثالث لرأس المال أو له وللربح معا، وكذا التبرع بالضمان من أحد العاقدين، والضمان من خلال التداول اليومي المبرمج برامج خاصة ... إلى غير ذلك من الافتراضات المطلوب دراستها لإدراك واقع القضية.

ولهذا يمكن تقسيم الدراسة إلى الفروع الآتية:

الفرع الأول: تعريف التحوط، مشروعية تخفيف المخاطر بالوسائل المشروعة

الفرع الثاني: التحوط بالضمان ضد مخاطر عقود الاستثمار.

الفرع الثالث: التحوط بالبيوع ضد مخاطر عقود الاستثمار.

وفيما يأتي تفصيل ذلك: [ ص: 135 ]

الفرع الأول: تعريف التحوط، ومشروعية تخفيف المخاطر بالوسائل المشروعة:

أولا: تعريف التحوط:

يطلق التحوط في اللغة ويراد منه عدة معان أبرزها [1] :

الأول: الحفظ والصيانة والرعاية، ومنه قول الهذلي:

وأحفظ منصبي وأحوط عرضي ... وبعض القوم ليس بذي حياط

الثاني: السنة المجدبة؛ وهي التي تحيط بالأموال، أي تهلكها، أو تحيط بالناس فتهلكهم.

الثالث: الأخذ بالأوثق من جميع الجهات، ومنه قولهم: (افعل الأحوط) يعني افعل ما هو أجمع لأصول الأحكام وأبعد عن شوائب التأويل.

وفي اصطلاح الفقهاء لا يخرج معناه عن المعنى اللغوي [2] .

والمقصود بالتحوط المالي: تحييد المخاطر وتقليصها ونقلها وإدارتـها، أو هـو حمـاية رأس المال باسـتـخـدام الـوسـائـل المـتـاحة للـوقاية من الخسارة أو النقصان أو التلف، وهي أعم من ضمان رأس المال المستثمر، من حيث إن [ ص: 136 ] الضمـان هـو الالتزام من جهة معينة بتحمل ما يلحق برأس المال من خسارة أو تلف أو نقصان، أما الحماية فهي وقاية رأس المال فتشمل الضمان المباشر وغير المباشر [3] .

وقد عرفه د. محمد علي القري، بأنه: استراتيجية، الغرض منها التخلص من أو إلغاء المخاطر، التي تكون خارج نطاق النشاط الرئيسي أو خارج مجال الاستثمار المستهدف [4] .

ثانيا: مشروعية تخفيف المخاطر بالوسائل المشروع:

تخفيف المخاطر بالوسائل المشروعة عند القيام بتنمية المال واستثماره مطلب شرعي؛ ولذا ندب الشارع إلى الاستيثاق والاحتياط بكتابة الدين والإشهاد عليه؛ لأن فيه حفـظـا للمال، وحفظه من مقاصد الشرع. وعليه: فإذا اتخذ الإنسان الوسائل ضمن نطاق المباح من العقود والإجراءات لغرض تقليل المخاطر، فإن عمله هذا جار على مقاصد الشرع. [ ص: 137 ]

ومن هنا احتاطوا قديما بمنع بعض التصرفات، التي تعرض أموال المضاربات لمخـاطر أكبر من المخـاطر المعتادة، ولذا روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قوله: "كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه: لا يسلك به بحرا، ولا ينزل به واديا، ولا يشتري به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجازه" [5] .

وروي عن عـروة بن الزبير [6] ، رضي الله عنهما، وعن غيره أن حكيم ابن حزام رضي الله عنه [7] ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم :"كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مـالا مقـارضة يضرب له به: ألا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئا من ذلك فقد ضمنت مالي" [8] . [ ص: 138 ]

بل إن الناس أعرضوا عن بعض الصيغ والأدوات المشروعة في المشاركات، كالمزارعة والمساقاة، نظرا لخراب الذمم وضياع الأمانة، ولجأوا إلى عقد الإجارة المضمونة العائد دون تحمل كثير مخاطر. قال ابن تيمية: "فالمساقاة والمزارعة تعتمد أمانة العامل، وقد يتعذر ذلك كثيرا فيحتاج الناس إلى المؤاجرة، التي فيها مال مضمون في الذمة؛ ولهذا يعدل كثير من الناس في كثير من الأمكنة والأزمنة عن المزارعة إلى المؤاجرة؛ لأجل ذلك" [9] .

وأدوات التحوط التقليدية تعتمد على عقود (الخيارات، والمستقبليات، والمبادلات) وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 63 ( 1 / 7 ) بتحريم عقود الاختيارات وتداولها [10] ، كما صدر قرار المجمع بتحريم عقود المستقبليات في العملات وفي السلع ما عدا حالتين من العقود الآنية للسلع، وكذا قال المعيار الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية رقم (20) بعدم جواز التعامل بعقود المستقبليات [11] ، والاختيارات [12] ، وعمليات المبادلات المؤقتة [13] ، إنشاء وتداولا. [ ص: 139 ]

وهذا ما أيده قرار ندوة البركة السابعة عشرة للاقتصاد الإسلامي والذي جـاء فيـه مـا يـلـي: "حيث إن الاختيار هو حق اختيار الشراء أو البيع لسلعة ما بشروط محددة لقاء عوض عن ذلك الحق، وتقوم إرادة المتعاقدين على توقعات متضادة لتقلبات الأسعار، فإن الندوة، انطلاقا من أن إرادة المتعاقد ومشيئته ليست محلا للعقد ولا للعوض عنها، تؤكد على قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 63 ( 1 / 7 )".

وذلك لأن هذه المخاطر لا يجوز الدخول فيها أصلا، فلا يجوز التحوط لها بعد ذلك - بصرف النظر عن شرعية أدوات التحوط أو عدم شرعيتها - وهي عقود مقامرة تشتمل على جهالة فاحشة أو غرر جسيم [14] .

وذلك كالغرر في وجود محل العقد كبيع المعدوم، والغرر في الحصول كبيع المعين، الذي لا يقدر على تسليمه كالجمل الشارد ونحو ذلك، وكالغرر في مقدار محل العقد كالبيع بثمن مجهول، أو الغرر في صفة محل العقد كبيع مجهول الصفة فيما يختلف ثمنه باختلاف صفاته، أو الغرر في أجل تسليم أحد العوضين كالثمن في البيع [15] . [ ص: 140 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية