الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى (الفتوى الاقتصادية نموذجا)

الدكتور / محمد محمود الجمال

الفرع الثاني: ضمان المصرف الإسلامي لرأس مال الاستثمار بالشرط:

المقصود بضمان رأس مال المضاربة بالشرط: أن يقـوم المستـثمر بالنص في عقد المضاربة على أن المصرف ضامن لرأس المال وعليه أن يرده غير منقوص في حالة الخسارة، أو ينص المصرف الإسلامي في عقد المضاربة على أن المضارب ضامن لرأس مال المضاربة وعليه أن يعيده كاملا إلى المصرف في حالة خسارة المشروع، سواء أكانت تلك الخسارة بتقصير أو بتعد منه أم بدون ذلك [1] .

وهذا يدعونا إلى التساؤل: هل ضمان رأس المال في عقد المضاربة من الشروط الفاسدة، التي تتعارض مع مقتضى عقد المضاربة أو لا؟ وهل يؤدي ذلك فعلا إلى خسارة المضارب من جهتين، من جهة عمله ومن جهة تحمله ضمان رأس المال؟

ومن ناحية ثانية، فإن المستثمر يدفع ماله غالبا إلى المصرف مضاربة مطـلـقـة وهـو لا يدري ماذا يفعل المصرف، ومع من يستثمر، وفيم يستثمر، ثـم إن المصرف يحصل على نسبة كبيرة من الأرباح قد يحتاج المستثمر في بعض المصارف الإسلامية إلى الاقتطاع من رأس المال على الأرباح المستفادة لدفع الزكاة. فهل يمكن لأجل هذا ضمان رأس المال بالشرط؟ [ ص: 117 ]

هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال التعرف على آراء الفقهاء في حكم اشتراط ضمان رأس مال المضاربة:

اختلف الفقهاء في حكم اشتراط الضمان على الأمين وذلك على قولين:

الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو أحد وجهين عند المالكية [2] إلى بطلان الشرط؛ لمنافاته لمقتضى العقد، "والشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله" [3] .

وعليه: فالمضـارب أمين؛ لأن قبضه للمال كان بإذن مالكه ولا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر.

نقل الحموي [4] عن العمادية قول أبي جعفر [5] : "الشرط وغير الشرط سواء؛ لأن اشتراط الضمان على الأمين باطل" [6] . [ ص: 118 ]

وقال القـاضي عبد الوهاب [7] : "أصل القراض موضوع على الأمانة، فإذا شرط فيه الضمان فذلك خلاف موجب أصله، والعقد إذا ضامه شرط يخالف موجب أصله وجب بطلانه". [8]

وقال الماوردي [9] : "للعقود أصولا مقدرة، وأحكامها معتبرة لا تغيرها الشـروط عن أحـكامها في شرط سقـوط الضمان وإيجابه كالودائع، والشركة لما كانت غير مضمونة كالعقود لا تعتبر مضمونة بالشروط". [10] [ ص: 119 ]

وقال ابن قدامة [11] : "فإن شرط المودع على المستودع ضمان الوديعة فقبله قال أنا ضامن لها لم يضمن، قال أحمد في المودع إذا قال أنا ضامن فسرقت فلا شيء عليه، وكذلك كل ما أصله الأمانة كالمضاربة ومال الشركة والرهن والوكالة، وبه قـال الثوري وإسحاق وابن المنذر؛ وذلك لأنه شرط ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه فلم يلزمه كما لو شرط ضمان ما يتلف في يد مالكه" [12] .

المذهب الثاني: ذهب المالكية في غير المشهور وأحمد في رواية عنه إلى أن الأمين قد رضي التزام ما لم يلزمه، "والتراضي هو المناط في تحليل أموال العباد" كما قال الشوكاني [13] . [ ص: 120 ]

قال ابن الحاجب [14] : "وإذا اشترط إسقاط الضمان فيما يضمن أو إثباته فيما لا يضمن ففي إفادته قولان" [15] .

وقال المقري [16] : "اشتراط ما يوجب الحكم خلافه مما لا يقتضي فسادا: هل يعتبر أو لا؟ ـ اختلفوا فيه كمن شرط الرجعة في الخلع فقيل بائن للعوض، وقيل رجعية للشرط" [17] .

وقال ابن قدامة: "وعن أحمد، أنه سئل عن ذلك، فقال: المسلمون على شروطهم. وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه، ووجوبه بشرطه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلمون على شروطهم ) [18] . [ ص: 121 ]

الراجح هو عدم جواز اشتراط الضمان؛ لأنه من الشروط الفاسدة، التي تخالف مقتضى العقد، فلا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر أو خالف الشروط المتفق عليها، أما غير ذلك من الحالات ففي الجملة لا يضمن المصرف الإسلامي؛ لأن العلاقة بين المودعين والمصرف الإسلامي قائمة على أساس المشاركة في الربح والخسارة، بناء على قاعدة الغرم بالغنم، والخراج بالضمان. والمعـنى: "ما خـرج من الشيء من عين ومنفعة وغلة؛ فهو للمشتري عوض ما كان عليه من ضمان الملك؛ فإنه لو تلف المبيع كان بضمانه؛ فالغلة له لتكون الغنم له في مقابلة الغرم" [19] . وقال ابن نجيم: "قضى [أي: صلى الله عليه وسلم ] بذلك في ضمان الملك، وجعل الخراج لمن هو مالكه، إذا تلف تلف على ملكه، وهو المشتري" [20] .

وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 123 ( 5 / 13 ) بدورته الثالثة عشرة: "المـضـارب أمين ولا يضمـن ما يقـع من خسـارة أو تلف إلا بالتعدي أو التقصير بما يشمل مخالفة الشروط الشـرعية أو قيود الاسـتثمار المحددة، التي تم الدخول على أسـاسها. ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة. ولا يتغير بدعوى قياسها على الإجارة المشتركة، أو بالاشتراط والالتزام. ولا مانع من ضمان الطرف الثالث طبقا لما ورد في قرار المجمع رقم 30 ( 5 / 4 )". [ ص: 122 ]

وجاء في فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي رقم ( 6 / 501 ): "لا يجوز شرعا ضمان المال المستثمر بقصد الربح؛ لأن الاستثمار في الإسلام يقوم على أساس الغرم بالغنم... وإنما يجب اتخاذ الحيطة والحذر لذلك باختيار المضارب الثقة الأمين المتمسك بدينه، مع الأخذ بالأساليب العلمية في الاستثمار، من دراسة السوق، ودراسة الجدوى الاقتصادية، والمتابعة والتقييم لكل الخطوات التنفيذية، وغير ذلك مما تتطلبه أساليب الاستثمار السليمة".

وورد في فتاوى المستشار الشرعي لمجموعة البركة: "رأس المال في شركة المضاربة أمانة في يد المضارب فلا يضمن ما يحصل فيه من خسارة إلا في حالات التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط.

وإن تحمل المضارب ضمان رأس المال ممنوع شرعا؛ لأنه يخالف مقتضى عقد المضاربة، الذي هو عقد على المشاركة في الربح، فإذا لم يحصل ربح ووقعت خسارة فإنها تربط بالمال طبقا للقاعدة الشرعية في المشاركات بأن الربح على ما يتفق عليه الشريكان، والخسارة بقدر الحصص في رأس المال. وإذا كان المضارب لا حصة له في التمويل فإن خسارته منحصرة في ضياع جهده، ويتحمل رب المال خسارة ماله.

ثم إن ضمـان المضـارب لرأس المـال مع شرط مشاركة رب المال في الربح يجعل التعامل كالمراباة، التي يضمن فيها المستثمر القرض ويستحق المقرض زيادة" [21] . [ ص: 123 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية