الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إدراك الواقع وأثره في ضبط الفتوى (الفتوى الاقتصادية نموذجا)

الدكتور / محمد محمود الجمال

المطلب الأول

الأجوبة المختلفة عن السؤال الواحد المتكرر

سأل العباس رضي الله عنه [1] فقال: قلت يا رسول الله: علمني شيئا أقوله، قال: ( سل الله العفو، والعافية ) [2] .

وجاء إليه صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، علمني شيئا أقوله. قال:

( قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم ) [3] . [ ص: 53 ]

أما أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله: علمني شيئا أقوله في صلاتي. قال: ( قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) [4] .

أما سفيان بن عبد الله الثقفي [5] فقال: قلت يا رسول الله، قل لي قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: ( قل: آمنت بالله، ثم استقم ) [6] . وسأله آخـر فـقـال: يا رسـول الله: قل لي قـولا وأقلل علي لعلي أعقله. قال: ( لا تغضب ) [7] . وسـأله ثالث فقـال: يا رسول الله: قل لي قولا ينفعني، ولا تكثر علي فأنسى. فقال له: ( أمسك لسانك ) [8] . [ ص: 54 ]

كما اختلفت أجوبته صلى الله عليه وسلم باختلاف السائلين وأحوالهم لما سئل مرات عن: أي المسلمين خير؟ وأي المؤمنين أفضل؟ فقال: ( كل مخموم القلب، صدوق اللسان", قالوا: صدوق اللسان نعرفه, فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي, لا إثم فيه, ولا بغي, ولا غل, ولا حسد ) [9] .

وسئل في رواية أبي هريرة رضي الله عنه : أي الناس أفضل؟ قال: ( أتقاهم ) [10] .

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن رجلا سأل رسـول الله صلى الله عليه وسلم : أي المسـلمـين خير؟ قال: ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) [11] .

كما سئل: أي الناس أفضل؟ فقال: ( رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه"، قال: ثم من؟ قال: "مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره ) [12] . [ ص: 55 ]

وروى أبو بكرة [13] رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ( من طال عمره، وحسن عمله ) قيل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره، وساء عمله" [14] .

وعن درة بنت أبي لهب [15] ، رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ( أتقاهم لله عز وجل، وأوصلهم لرحمه، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ) [16] . [ ص: 56 ]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أفضل؟ قال: "أنا ومن معي"، قيل: ثم من؟ قـال: الذين على الأثر ودعا فقال: "يا ابن مسعود [17] "، قلت: لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالها ثلاثا، قال: "تدري أي الناس أفضل"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم ) [18] .

كما اختـلفت وصاياه لمـن استـوصاه، من المسلمين، فأوصى أحدهم لمـا قـال: يا رسول الله أوصـني. قـال: ( لا تغضب ) فردد مرارا فقـال: ( لا تغضب ) [19] . [ ص: 57 ]

وقال لآخر: ( أوصيك أن لا تكون لعانا ) [20] .

وقال لأبي ذر رضي الله عنه لما استوصاه، قال: قلت: يا رسول الله، أوصني. قال: ( إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها ) قال: قلت: يا رسول الله، أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: ( هي أفضل الحسنات ) [21] .

وقال جابر بن سليم [22] رضي الله عنه : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محني، وعليه بردة له إن هدابها لعلى قدميه، فلما قربت لأرتحل، قلت: يا رسول الله، أوصني، قال:

( اتق الله ولا تحقر من المعروف شيئا، ولو أن تفرغ للمستسقي من دلوك في إنائه، وأن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك من إسبال الإزار فإنه من المخيلة، لا يحبها الله، وإن امرؤ شتمك لشيء يعلمه فيك، فلا تشـتمه لشيء تعلمه فيه حتى يكون وباله عليه، وأجره لك، ولا تسبن شيئا ) [23] . [ ص: 58 ]

وقال للحارث بن هشام المخزومي [24] رضي الله عنه : ( أملك عليك لسانك ) [25] . وقال حرملة رضي الله عنه [26] : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركب من الحي فلما أردت الرجـوع قلت: يا رسـول الله، أوصني، قال: ( اتق الله، وإذا كنت في مجلس فقمت منهم فسمعتهم يقولون ما يعجبك فأته، وإذا سمعتهم يقولون ما تكره فلا تأته ) [27] .

وأوصى مسافرا لما قال: يا رسول الله، أوصني، قال: ( أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف ) [28] . [ ص: 59 ]

وأوصى آخر فقال: ( اعبد الله ولا تشرك به شيئا، واعمل لله كأنك تراه، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وإن عملت سيئة في سر فأتبعها حسنة في سر، وإن عملت سيئة علانية فأتبعها حسنة علانية، واتق الله، وإياك ودعوة المظلوم ) [29] .

واستوصاه معاذ بن جبل رضي الله عنه [30] فقال: يا رسول الله أوصني، قال: ( أخلص دينك يكفك العمل القليل ) [31] .

كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال لما سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: ( إيمان بالله ورسوله ) [32] . [ ص: 60 ]

وقال: ( كلمة حق عند سلطان جائر ) [33] ، وقال: ( الصلاة لوقتها، وبر الوالدين ) [34] ، وقال: "العج والثج" [35] قال وكيع [36] : يعني بالعج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن.

وقال: ( طول القيام ) [37] . وقال: "الصبر والسماحة" [38] . وقال: "أدومها وإن قل" [39] ، وقال: ( حسن الخلق ) [40] . وقال: ( أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله تعالى ) [41] . [ ص: 61 ]

وقال: ( الصلاة لميقاتها الأول ) [42] . وقال: ( إيمان لا شك فيه، وغزو لا غلول فيه، وحج مبرور ) [43] . وقال: ( إدخالك السرور على مؤمن، أشبعت جوعته، أو كسوت عريه، أو قضيت له حاجة ) [44] .

وقال: ( أن تدخل على أخيك المؤمن المسلم سرورا، أو تقضي له دينا، أو تطعمه خبزا ) [45] .

والسنة النبـوية زاخرة بالنمـاذج لتفـاضل الأعـمال، وأوجـه تفاضلها، وما سبق إيراده يكفي عن متابعة البحث في هذا الجانب، لكني سأنتقل بالبحث عن نظرة الفقهاء للمقاصد النبوية في سوقه للأعمال وتفاضلها.

وفيما يأتي البيان:

قال التوربشتي [46] : "ووجه التوفيق: أنه صلى الله عليه وسلم أجاب لكل بما يوافق غرضه، وما يرغبه فيه، أو أجاب بحسب ما عرف من حاله، أو بما يليق به وأصلح له، [ ص: 62 ] توفيقا على ما خفي عليه، ولقد يقول الرجل: خير الأشياء كذا ولا يريد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء، ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال، ولأحد دون آخر، كما يقال في موضع يحمد فيه السكوت لا شيء أفضل من السكوت" [47] .

وقال السنـدي [48] : "أحـاديث أفضل الأعمال مختلفة، وقد ذكر العلماء في توفيقها وجوها من جملتها أن الاختلاف بالنظر إلى اختلاف أحوال المخاطبين، فمنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بعمل، ومنهم من يكون الأفضل له الاشتغال بآخر يعني فمن كان مطيقا للجهاد قوي الأثر فيه شجاعا باسلا يحصل به نفع الإسلام، فأفضل أعماله الجهاد، ومن كان كثير المال غنيا ينتفع الفقراء بماله فأفضل أعماله الصدقة، ومن كان غير متصف بأحد الصفتين المذكورتين فأفضل أعماله الذكر ونحوه" [49] . [ ص: 63 ]

ولعل ما ورد يدفع ظن البعض أن العمل الفاضل ما كان أكثر مشقة؛ ولذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه [50] :

"يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين" [51] .

وقـال ابن القيم: "العبد إنما يـقـطـع منازل السير إلى الله بقلبه وهمـتـه، لا ببدنه" [52] .

وقال ابن تيمية: "الأعمـال لا تتـفـاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل" [53] . [ ص: 64 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية