الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
58 - " ابغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " ؛ (حم م حب ك) ؛ عن أبي الدرداء .

التالي السابق


(ابغوني) ؛ بالوصل؛ من الثلاثي؛ فهو مكسور الهمزة؛ أي: اطلبوا لي طلبا حثيثا؛ يقال: " ابغني مطالبي" ؛ اطلبها لي؛ وفي رواية بالقطع؛ من الرباعي؛ فهو مفتوح الهمزة؛ أي: أعينوني على الطلب؛ يقال: " أبغيتك الشيء" ؛ أي: أعنتك على طلبه؛ قال رؤبة :


.................. ... فاذكر بخير وابغني ما ينبغي



أي: اصنع بي ما ينبغي أن يصنع؛ ذكره الزمخشري ؛ قال ابن حجر: والأول أليق بالقياس؛ وأوفق في المذاق؛ وقال الزركشي: الأول هو المراد بالحديث؛ قال (تعالى): يبغونكم الفتنة ؛ أي: يطلبونها لكم؛ (الضعفاء) ؛ من يستضعفهم الناس لفقرهم؛ ورثاثتهم؛ قال القاضي: أي: اطلبوا لي؛ وتقربوا إلي بالتقرب إليهم؛ وتفقد حالهم؛ وحفظ حقوقهم؛ والإحسان إليهم؛ قولا وفعلا واستنصارا بهم؛ قال الراغب : و" الضعف" ؛ يكون في البدن؛ وفي النفس؛ وفي الحال؛ وهو المراد هنا؛ (فإنما ترزقون) ؛ تمكنون من الانتفاع بما أخرجنا لكم؛ (وتنصرون) ؛ تعانون على عدوكم؛ ويدفع عنكم البلاء والأذى؛ قال القاضي: و" النصرة" ؛ أخص من " المعونة" ؛ لاختصاصها بدفع الضر؛ قال الحراني : و" النصر" ؛ لا يكون إلا لمحق؛ وإنما لغير المحق الظفر والانتقام؛ (بضعفائكم) ؛ بسبب كونهم بين أظهركم؛ أو بسبب رعايتكم ذمامهم؛ أو ببركة دعائهم؛ والضعيف إذا رأى عجزه؛ وعدم قوته؛ تبرأ عن الحول والقوة بإخلاص؛ واستعان بالله؛ فكانت له الغلبة؛ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ؛ بخلاف القوي؛ فإنه يظن أنه إنما يغلب الرجال بقوته؛ فتعجبه نفسه غالبا؛ وذلك سبب للخذلان؛ كما أخبر الله (تعالى) عن بعض من شهد وقعة " حنين" ؛ وفي رواية: (في ضعفائكم) ؛ وفي أخرى: (في الضعفاء) ؛ بزيادة " في" ؛ قال الزين العراقي: والذي وقع في أصول سماعنا من كتاب الترمذي : (ابغوني في ضعفائكم) ؛ وهو عند أبي داود والنسائي بإسقاط حرف الجر: " ابغوني الضعفاء" ؛ وفي مسند أحمد : (ابغوني ضعفاءكم) ؛ وكذا رواه الطبراني ؛ قال: وهو أصح من الرواية المتقدمة؛ والمعنى: اطلبوا لي ضعفاءكم؛ انتهى؛ وفي طيه إعلام بإسقاط كلمة النصر بالأسباب والعدة والعدد والآلات المتعبة الشاقة؛ والاستغناء بتعلق القلوب بالله (تعالى)؛ فنصرة هذه الأمة إنما هي بضعفائها؛ لا بمدافعة الأجسام؛ فلذلك افتتح المصطفى المدينة بالقرآن؛ ويفتح خاتمة هذه الأمة القسطنطينية بالتسبيح والتكبير؛ قال بعض العارفين: ومن حكمته (تعالى) أنه أمر بالعدة للعدو؛ وأخذه بالقوة وأخبر أن النصر بعد ذلك يكون بالضعفاء؛ ليعلم الخلق فيما أمروا به من الاستعداد؛ وأخذ الحذر؛ أن يرجعوا للحقيقة؛ ويعلموا أن النصر من عند الله يلقيه على يد الأضعف؛ فالاستعداد [ ص: 83 ] للعادة؛ والعلم بجهة النصر في الضعيف للتوحيد؛ وأن الأمر كله لله؛ عادة وحقيقة؛ يدبره كيف شاء؛ قال الطيبي: وفيه نهي عن مخالطة الأغنياء؛ وتحذير من التكبر على الفقراء؛ والمحافظة على جبر خواطرهم؛ ولهذا قال لقمان لابنه: " لا تحقرن أحدا لخلقان ثيابه؛ فإن ربك وربه واحد" ؛ وقال ابن معاذ : حبك الفقراء من أخلاق المرسلين؛ وإيثارك مجالستهم من علامات الصالحين؛ وفرارك منهم من علامات المنافقين؛ وفي بعض الكتب الإلهية: أوحى الله إلى بعض أنبيائه: " احذر أن أمقتك فتسقط من عيني؛ فأصب عليك الدنيا صبا" ؛ قالوا: خرج موسى يستسقي لبني إسرائيل في سبعين ألفا؛ بعد أن أقحطوا سبع سنين؛ فأوحى الله إليه: " كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم سرائرهم؟! ارجع إلى عبد من عبادي؛ يقال له: برخ؛ وقل له؛ يخرج؛ حتى أستجيب له" ؛ فسأل عنه موسى؛ فلم يعرفه؛ فبينا هو ذات يوم يمشي إذا بعبد أسود يمشي؛ بين عينيه أثر السجود؛ في شملة عقدها على عنقه؛ فعرفه بنور الله؛ فسلم عليه وقال: " إنك طلبتنا منذ حين؛ استسق لنا" ؛ فخرج؛ فقال في كلامه: " ما هذا فعالك؛ وما هذا من حلمك؛ وما الذي بدا لك؟! أنقصت غيوثك؟! أم عاندت الرياح طاعتك؟! أم نفد ما عندك؟! أم اشتد غضبك على المذنبين؟! ألست كنت غفارا قبل خلق الخاطئين؟! خلقت الرحمة وأمرت بالعطف؛ ترينا أنك ممتنع؛ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟!" ؛ فما برح حتى أخصبت بنو إسرائيل بالقطر؛ وأنبت الله العشب في نصف يوم؛ قال حجة الإسلام: فهذا عبد غلب عليه الأنس؛ فلم ينغصه خوف التغير والحجاب؛ فأثمر نوعا من الانبساط؛ وذلك محتمل في مقام الأنس؛ ومن لم يكن في مقامه؛ وتشبه به؛ هلك؛ فالله الله في نفسك.

(تنبيه) : هذا الحديث وما على منواله: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" ؛ قد وقع التعارض ظاهرا بينه وبين خبر مسلم : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف؛ وفي كل خير" ؛ وعند التأمل لا تدافع؛ إذ المراد بمدح القوة القوة في ذات الله؛ وشدة العزيمة؛ وبمدح الضعف لين الجانب؛ ورقة القلب؛ والانكسار بمشاهدة جلال الجبار؛ أو المراد بذم القوة التجبر والاستكبار؛ وبذم الضعف ضعف العزيمة في القيام بحق الواحد القهار؛ على أنه لم يقل هنا: إنهم ينصرون بقوة الضعفاء؛ وإنما مراده: بدعائهم؛ أو بإخلاصهم؛ أو نحو ذلك مما مر.

(حم م حب ك) ؛ كلهم في الجهاد؛ وكذا ابن حبان والطبراني والبيهقي ؛ (عن) ؛ حكيم هذه الأمة؛ بنص المصطفى؛ ( أبي الدرداء ) ؛ بفتح المهملتين؛ وسكون الراء؛ واسمه " عويمر " ؛ مصغر " عامر " ؛ ابن مالك ؛ أو ابن عامر ؛ أو ابن ثعلبة؛ أو غير ذلك؛ قال الترمذي والحاكم : صحيح؛ وأقره الذهبي ؛ وفي الرياض: إسناده جيد.



الخدمات العلمية