الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل

                                                                                                                                                                                                                                      المهدوي - أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 133 ] التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      (أم) : بمعنى: (بل) ، على ما تقدم من القول في مثله.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولما) بمعنى: (لم) ، وهو جواب من قال: (قد فعل) ، و (لم) : جواب من قال: (فعل) ، هذا مذهب سيبويه .

                                                                                                                                                                                                                                      و (العلم) : يعني به: العلم الذي يقع عليه الثواب والعقاب.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) يعني: تمنيهم القتال، عاتبهم الله; لأن كثيرا ممن لم يحضر بدرا كانوا يتمنون يوما يكون فيه القتال، فلما كان يوم أحد; انهزموا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (وأنتم تنظرون) معناه: وأنتم بصراء ليس في أعينكم علل، وقيل: هو تكرير بمعنى التأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) : نزلت هذه الآية بسبب انهزام المسلمين يوم أحد، حين صاح الشيطان: قد قتل محمد، فأعلم الله تعالى أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 134 ] ودخل الاستفهام على حرف الجزاء; لأن الشرط قد انعقد به، وصار جملة واحدة، وخبرا واحدا، والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء; فإنه في غير موضعه، وموضعه: أن يكون قبل جواب الشرط.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (انقلبتم على أعقابكم) : تمثيل، ومعناه: ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، فالكافر راجع عما كان عليه، كالراجع يمشي إلى خلفه.

                                                                                                                                                                                                                                      (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) : هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت المخوف فيه لا يكون إلا بإذن الله.

                                                                                                                                                                                                                                      (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها) يعني: الغنيمة، وقيل: هو عام في كل من أراد الدنيا دون الآخرة، والمعنى: نؤته منها ما قسم له.

                                                                                                                                                                                                                                      (ومن يرد ثواب الآخرة) أي: من يعمل لها نؤته منها; أي: نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله عز وجل من تضعيفه الحسنات لمن يشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      (وسنجزي الشاكرين) : تأكيد لما تقدم من إيتاء مريد الآخرة، وقيل: المعنى: وسنجزي الشاكرين من الرزق في الدنيا; لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 135 ] وأما قوله (وسيجزي الله الشاكرين) عقيب قوله: (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) ، فهو إيصال وعد بوعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) : (كأين) : بمعنى: (كم) ، وهي (أي) دخلت عليها كاف التشبيه، فغير لفظها; لتغير معناها.

                                                                                                                                                                                                                                      و (الربيون) : الجماعات الكثيرة، عن مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد : هم الأتباع.

                                                                                                                                                                                                                                      والمخبر عنهم بالقتل: قيل: هم الربيون، ومعنى (فما وهنوا) على هذا: فما وهن من بقي منهم، ولا يوقف على (قتل) على هذا التأويل، وهو مذهب الحسن وغيره، قال الحسن : لم يقتل نبي قط في حرب.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة ، وعكرمة ، وغيرهما: المخبر عنه بالقتل: النبي، فالوقف على هذا على (قتل) جائز، وقوله: (معه ربيون كثير) : ابتداء وخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) أي: ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (وما ضعفوا) عن عدوهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (وما استكانوا) : لما أصابهم في الجهاد، و (الاستكانة) : الذل والخضوع، وأصلها: (استكانوا) : (افتعلوا) ، فأشبعت فتحة الكاف، فتولدت منها ألف، [ ص: 136 ] ومن جعلها من الكون; فهي (استفعلوا) ، والأول أشبه بمعنى الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) أي: صغير ذنوبنا، (وإسرافنا في أمرنا) : كبيرها.

                                                                                                                                                                                                                                      (وثبت أقدامنا) أي: على دينك، وفي قتال عدوك.

                                                                                                                                                                                                                                      (فآتاهم الله ثواب الدنيا) يعني: النصر والغنيمة.

                                                                                                                                                                                                                                      (وحسن ثواب الآخرة) يعني: ما أعد لهم في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) يعني: مشركي العرب، وقيل: اليهود والنصارى.

                                                                                                                                                                                                                                      (بل الله مولاكم) أي: متولي نصركم.

                                                                                                                                                                                                                                      (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) : قال السدي ، وغيره: هم أبو سفيان وأصحابه; بالرجوع بعد أحد لاستئصال المسلمين، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم حتى انقلبوا خائبين) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (ما لم ينـزل به سلطانا) أي: حجة، وأصل (السلطان) :

                                                                                                                                                                                                                                      القوة; فالحجة يقهر بها، كما يقهر بالسلطان.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) : قتادة ، وغيره: معنى (تحسونهم) : تقتلونهم، وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة، فمعنى (حسه) إذا قتله: أبطل حسه، ومعنى (بإذنه) : بعلمه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 137 ] (حتى إذا فشلتم) : أي جبنتم.

                                                                                                                                                                                                                                      (حتى إذا فشلتم) يعني: تنازع الرماة حين قال بعضهم: نلحق الغنائم، وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      (من بعد ما أراكم ما تحبون) يعني: من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد في أول أمرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (من يريد الدنيا) أي: الغنيمة، (ومنكم من يريد الآخرة) أي: الأجر.

                                                                                                                                                                                                                                      (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) أي: بعد أن استوليتم عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولقد عفا عنكم) أي: إذ لم يستأصلكم، والخطاب: قيل: هو للجميع، وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به.

                                                                                                                                                                                                                                      (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) : (الإصعاد) : الابتداء في السير.

                                                                                                                                                                                                                                      القتبي: (أصعد في الأمر) ; إذا أمعن، فالإصعاد: يكون في المستوي من الأرض، والصعود: في المرتفع، فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة ، والربيع : أصعدوا يوم أحد في الوادي.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس ، والحسن : صعدوا في أحد فرارا، وهذا على قراءة من قرأ: (تصعدون) ، [ويجوز أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي; فيصح المعنى على قراءة من قرأ: (تصعدون) ].

                                                                                                                                                                                                                                      (والرسول يدعوكم في أخراكم) : قال ابن عباس ، وغيره: كان دعاء [ ص: 138 ] النبي صلى الله عليه وسلم: "إلي عباد الله ارجعوا".

                                                                                                                                                                                                                                      (فأثابكم غما بغم) : قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما: الغم الأول: القتل والجراح، والغم الثاني: الإرجاف بقتل النبي عليه الصلاة والسلام; إذ صاح به الشيطان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الأول: أسفهم على فوت الغنيمة، والثاني: اطلاع أبي سفيان عليهم في الجبل.

                                                                                                                                                                                                                                      و (الباء) : قيل: هي بمعنى (على) ، وقيل: بمعنى (مع) ، وقيل: هي على بابها.

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: أنهم غموا النبي عليه الصلاة والسلام بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك الغم غمهم بما أصيب منهم.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : معناه: غم يوم أحد بغم يوم بدر.

                                                                                                                                                                                                                                      وسمي الغم ثوابا، كما سمي جزاء الذنب ذنبا، على ما قدمناه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم) أي: على ما فاتكم من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة، و (اللام) من (لكيلا) متعلقة بقوله: (فأثابكم غما بغم) ، ويجوز أن تكون متعلقة بقوله: (ولقد عفا عنكم) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 139 ] (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) : (الأمنة) و (الأمن) سواء، ونزلت (الأمنة) المذكورة ههنا يوم أحد، فغشي طائفة من المؤمنين النعاس.

                                                                                                                                                                                                                                      (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) يعني: المنافقين، والواو في (وطائفة) : واو الحال; بمعنى: (إذ طائفة) .

                                                                                                                                                                                                                                      (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية) يعني: ما ظنوه من اضمحلال أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      (يقولون هل لنا من الأمر من شيء) أي: يقولون: ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شيء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: معناه: يقولون: ليس لنا من أمر الخروج شيء، إنما أخرجنا كارهين; يدل على ذلك قوله إخبارا عنهم: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) ، ويروى: أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، عن الزبير بن العوام وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      (قل إن الأمر كله لله) أي: ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك) يعني: من الشك والنفاق.

                                                                                                                                                                                                                                      (وليبتلي الله ما في صدوركم) أي: وليبتلي ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فرض عليكم القتال، ومعناه: أنه ابتلاهم، ليظهر للمؤمنين ما يخفونه، وليقع منهم الفعل الذي يجازون عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 140 ] وقيل: هي على حذف المضاف، والتقدير: وليبتلي أولياء الله .

                                                                                                                                                                                                                                      (وليمحص ما في قلوبكم) أي: يذهب ما اقترفتم من السيئات إن تبتم وأخلصتم، وقد تقدم ذكر التمحيص.

                                                                                                                                                                                                                                      (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) يعني: من تولى عن المشركين يوم أحد، عن عمر رضي الله عنه، وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : يعني: من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة، دون من صعد الجبل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هي في قوم بأعيانهم، أقاموا عن النبي عليه الصلاة والسلام في هزيمتهم ثلاثة أيام، ثم انصرفوا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (استزلهم الشيطان) : استدعى أن يزلوا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ذكرهم الشيطان ذنوبهم; فكرهوا الموت، وهو معنى (ببعض ما كسبوا) على هذا التأويل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: معناه: محبتهم الغنيمة، وحرصهم على الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولقد عفا الله عنهم) أي: إذ لم يعاجلهم بالعقوبة، عن ابن جريج ، وابن زيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) يعني بـ (كالذين كفروا) : المنافقين، قالوا في السرايا التي بعث النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) ، فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (إذا ضربوا في الأرض) : هو لما مضى; لأن في الكلام معنى الشرط، من [ ص: 141 ] حيث كان (الذين) مبهما غير مؤقت، فوقع (إذا) موقع (إذ) ، كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (ضربوا في الأرض) : سافروا.

                                                                                                                                                                                                                                      (ليجعل الله ذلك حسرة) : [اللام متعلقة بـ(قالوا) من قوله: (وقالوا لإخوانهم) ، أو يكون المعنى: لا تكونوا مثلهم; ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم]، و (الحسرة) : على ما يفوتهم من الظفر والغنيمة.

                                                                                                                                                                                                                                      (فبما رحمة من الله لنت لهم) : (ما) : صلة، والمعنى: فبرحمة من الله. ابن كيسان : (ما) : نكرة في موضع جر بالباء، و (رحمة) : بدل منها.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولو كنت فظا غليظ القلب) : (الفظ) : الجافي، الغليظ الجانب، السيئ الخلق، و (الغليظ القلب) : القاسي القلب، وجمع بين الصفتين; لئلا يتوهم أنه يعني فظاظة الكلام، يقال: (فظظت تفظ فظاظة; فأنت فظ) ، وأصله: (فظظ) .

                                                                                                                                                                                                                                      (لانفضوا من حولك) أي: تفرقوا.

                                                                                                                                                                                                                                      (وشاورهم في الأمر) : قال قتادة ، والربيع بن أنس : معنى مشاورته إياهم: أنه تطييب لنفوسهم، ورفع لأقدارهم.

                                                                                                                                                                                                                                      سفيان بن عيينة: إنما ذلك; لتقتدي به أمته في المشاورة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: أمر بذلك; لأنه قد يكون عند بعضهم من أمور الدنيا ما ليس عنده [ ص: 142 ] إذا لم يوح إليه.

                                                                                                                                                                                                                                      (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) أي: وإن يترككم من معونته، وقوله: (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) تقرير.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية