الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      فكيف إذا أصابتهم مصيبة الآية، المعنى: فكيف يكون حالهم إذا أصابتهم مصيبة؟ ونزل هذا بسبب قيام أهل المنافق الذي قتله عمر ـ رضي الله عنه ـ يطلبون [ ص: 287 ] دمه، ويحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أردنا بطلب دمه إلا الإحسان، وموافقة الحق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى: ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم، والإحسان بالتقريب في الحكم; فقال الله ـ تعالى ـ مكذبا لهم: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم ; أي: عن عقابهم، وقيل: فأعرض عن قبول اعتذارهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي: ازجرهم بأبلغ الزجر، الحسن : قل لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم; قتلتكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله قيل: معنى بإذن الله : بعلم الله ، وقيل: بتوفيق الله; فمن وفق; أطاع، ومن خذل; عصى.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا وربك لا يؤمنون الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      دخلت (لا) على معنى الرد لكلامهم، كأنه قال: ليس الأمر، كما

                                                                                                                                                                                                                                      يزعمون ، ثم استأنف القسم، وقيل: دخلت توطئة للنفي الذي بعدها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 288 ] ومعنى شجر بينهم : اختلفوا فيه، قيل ذلك: لتداخل كلام بعضهم في بعض; كتداخل الشجر بالتفافه، وقيل: لاختلافهم; كاختلاف أغصان الشجر.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت أي : ضيقا، وإلى هذا المعنى يرجع قول مجاهد : إنه الشك، وقول الضحاك : إنه الإثم، كأنه ضيق شك أو ضيق إثم.

                                                                                                                                                                                                                                      ونزلت الآية في قول مجاهد والشعبي: في اليهودي والمنافق المتقدم ذكرهما، وقيل: في الزبير بن العوام ورجل من الأنصار - قيل: هو حاطب بن أبي بلتعة، وقيل : غيره- اختصما إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ماء; فحكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للزبير أن يسقي به، ثم يسرحه إلى الأنصاري; فغضب الأنصاري وقال: أن كان ابن عمتك؟; فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 289 ] وقوله: ويسلموا تسليما أي: يسلموا لأمرك، (وتسليما) : تأكيد.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      روي: أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر مع يهودي، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن نقتل أنفسنا، ففعلنا، وبلغت القتلى سبعين ألفا; فقال ثابت: والله لو كتب علينا أن اقتلوا أنفسكم; لفعلنا، فنزلت الآية ، فقال : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى وأشد تثبيتا أي: تثبيتا لهم على الحق.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما : (إذا) ههنا: دالة على الجزاء، والمعنى : (لو فعلوا ما يوعظون به; لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما) .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يطع الله والرسول الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      روي: أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك - يا رسول الله - معنا في الدنيا، وترفع في الآخرة لفضلك; فنزلت، وأعلموا أنهم يزورون الأنبياء [ ص: 290 ] عليهم السلام، ويتزاورون في الجنة، وفي الخبر: "أن الأعلى ينحدر إلى من هو دونه" .

                                                                                                                                                                                                                                      و (الصديق) : الذي كثر منه الصدق، وفي خبر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: الصديقون هم المتصدقون .

                                                                                                                                                                                                                                      وحسن أولئك رفيقا وقيل: معناه: رفقاء، فوحد، لأنه في موضع التمييز، وكأن المعنى: (وحسن كل واحد منهم رفيقا) .

                                                                                                                                                                                                                                      فانفروا ثبات أي: جماعات في تفرقة.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة: (الثبات) : الفرق، وأصله: من ثبيت على الرجل أثبي; إذا جمعت في الثناء عليه ذكر محاسنه; فالمحذوف لام الفعل; وهي ياء، ويجمع: (ثبون) ، و (ثبون) ، جمعت بالواو والنون; ليكون ذلك عوضا من النقص [ ص: 291 ] الذي لحقها، وأما كسر أوله; فلخروجه عن بابه; لأن حكم مثل هذا أن يجمع بالألف والتاء، هذا قول سيبويه ، ويصغر (ثبيات) ; لأن النقص قد زال عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قيل: إن المحذوف منها واو; إذ هي أكثر ما يحذف; نحو: (غد) ، و (دم) ، و(هن) ، ولا يكون المحذوف منها فاء ولا عينا; لأن الفاء لم يطرد حذفها إلا في مصادر بنات الواو; نحو: (عدة) ، ولم تحذف الواو من (فعلة) إلا في نحو قولهم: (صلة) في الصلة، ولم يأت حذف العين إلا في (سه) ، و (مذ) وهما نادران.

                                                                                                                                                                                                                                      والمحذوف من (ثبة الحوض) - وهي وسطه الذي يثوب الماء إليه -: [ ص: 292 ] عينها، وهي واو، وتصغيرها: (ثويبة) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: يجوز أن تكون من: (ثبيت) ; إذا جمعت; لأن الماء إنما يجتمع من الحوض في وسطه; فيكون كالأول، ومعنى الآية : (انفروا فرقة بعد فرقة) ، وقيل : انفروا في جهات مختلفة.

                                                                                                                                                                                                                                      أو انفروا جميعا : من غير تفرق في الأوقات والجهات، روي معناه عن ابن عباس وغيره، وأصل (انفروا) : من النفور; وهو الفزع.

                                                                                                                                                                                                                                      وخذوا حذركم : معناه: احذروا عدوكم، وقيل: خذوا سلاحكم، سمي السلاح حذرا; إذ به يكون الحذر.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن منكم لمن ليبطئن أي: عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم، و (اللام) في (لمن) : للابتداء، وفي (ليبطئن) : لام القسم ، والمراد: المنافقون، وقال: (منكم) ; لأنهم في ظاهر الأمر من عداد المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن أصابتكم مصيبة أي: هزيمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولئن أصابكم فضل من الله أي: غنيمة.

                                                                                                                                                                                                                                      كأن لم تكن بينكم وبينه مودة أي : كأن لم يعاقدكم على الجهاد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير : (ولئن أصابكم فضل من الله) ; ليقولن : يا ليتني كنت معهم; فأفوز فوزا عظيما، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 293 ] وقيل: هو في موضعه، على معنى الحال.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو متصل بقوله: إذ لم أكن معهم شهيدا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقول المنافق : يا ليتني كنت معهم على وجه الحسد للمسلمين، أو الأسف على فوت الغنيمة، مع الشك في الجزاء من الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب : أوجب الله ـ تعالى ـ الجزاء على كل واحدة من الحالتين.

                                                                                                                                                                                                                                      وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين أي: وفي المستضعفين; أي: في خلاصهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: وفي سبيل المستضعفين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : (في) بمعنى: (عن) .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية