الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) المعنى: على أي حال تكفرون وأنتم ترون ذلك؟ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته.

                                                                                                                                                                                                                                      (ومن يعتصم بالله) أي: يمتنع به.

                                                                                                                                                                                                                                      (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) : قال ابن مسعود وغيره: (حبل الله) : القرآن، ورواه الخدري عن النبي عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : الحبل: العهد.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد : حبل الله: دينه، وأصله في اللغة: السبب، فحبل الله: هو سبب النجاة. [ ص: 103 ]

                                                                                                                                                                                                                                      (ولا تفرقوا) أي: لا تتفرقوا في دينكم كما تفرقت اليهود والنصارى في أديانهم، عن ابن مسعود وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : لا تتفرقوا على النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) يعني: ما كان بين الأنصار، وأن الله أصلح بينهم بالنبي عليه الصلاة والسلام، عن قتادة وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : المراد بالآية: ما كان بين مشركي العرب من الطوائل.

                                                                                                                                                                                                                                      و (الإخوان) : جمع أخ، وسمي أخا; لأنه يتوخى مذهب أخيه; أي: يقصده.

                                                                                                                                                                                                                                      (إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار) : (الشفا) : الحرف، وهو من الياء، وفيه لغة أنه من الواو، وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) قيل: إن (من) للتبعيض، ومعناه: أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء، وليس كل الناس علماء. [ ص: 104 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: (من) لبيان الجنس، والمعنى: (لتكونوا كلكم كذلك) .

                                                                                                                                                                                                                                      (ولا تكونوا كالذين تفرقوا) يعني: اليهود والنصارى.

                                                                                                                                                                                                                                      (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) : (ابيضاض الوجوه) : إشراقها بالنعيم) ، و (اسودادها) : هو ما يرهقها من العذاب الأليم.

                                                                                                                                                                                                                                      والذين تسود وجوههم في قول أبي بن كعب: هم الكفار، وقيل لهم: (أكفرتم بعد إيمانكم) ; لإقرارهم حين أخرجهم الله من ظهر آدم كالذر، وهو اختيار الطبري .

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : هي في المنافقين، قتادة : هي في المرتدين.

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج : هي في أهل الكتاب; لأنهم آمنوا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه قبل أن يبعث، فلما بعث; كفروا به.

                                                                                                                                                                                                                                      مالك بن أنس : هي في أهل الأهواء.

                                                                                                                                                                                                                                      أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (هي في الحرورية) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 105 ] وفي خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها في القدرية) . وجواب (أما) محذوف، والمعنى: فيقال لهم: أكفرتم؟.

                                                                                                                                                                                                                                      (ولله ما في السماوات وما في الأرض) : وجه اتصال هذا بما قبله: أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين، وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم; لكون ما في السماوات وما في الأرض في قبضته.

                                                                                                                                                                                                                                      (كنتم خير أمة أخرجت للناس) الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد : المعنى: كنتم خير أمة أخرجت للناس على الشرائط المذكورة في الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: كنتم في اللوح المحفوظ.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، فالمعنى: كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتاب خير أمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هي (كان) التامة، [والمعنى: حدثتم خير أمة، فـ (خير أمة) : حال]، وقيل: (كان) زائدة، والمعنى: أنتم خير أمة.

                                                                                                                                                                                                                                      (لن يضروكم إلا أذى) يعني: كذبهم وتحريفهم، عن الحسن ، وقتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      فالاستثناء متصل، والمعنى: لن يضروكم إلا ضرا يسيرا، فوقع [ ص: 106 ] (الأذى) موقع المصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو منقطع، والمعنى: لن يضروكم ألبتة، لكن يؤذونكم بما يسمعونكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار) معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم; لأن كل من قاتله من اليهود ولى دبره.

                                                                                                                                                                                                                                      (ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا) يعني: اليهود، عن الحسن وغيره، و (الحبل) ههنا: العهد، والمعنى: ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا بحبل من الله; فهو استثناء منقطع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو متصل; لأن عز الإسلام عز لهم بالذمة، وإن كان لا يخرجهم من الذلة في أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      بعض الكوفيين: هو متصل محمول على المعنى; لأن معنى الكلام: ضربت عليهم الذلة بكل موضع إلا بموضع من الله.

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء : المعنى: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (ليسوا سواء) : ابن مسعود : معناه: ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء، وقال: نزلت الآية بسبب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة ليلة، ثم خرج، ومن الناس المصلي، ومنهم المضطجع، فبشرهم وقال: "إنه لا يصلي هذه [ ص: 107 ] الصلاة أحد من أهل الكتاب، فنزلت الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء، والوقف على هذه الأقوال على (سواء) .

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء : في الكلام حذف، والتقدير: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة مستقيمة وأمة غير مستقيمة، كما تقول: (سواء علي قيامك وقعودك) .

                                                                                                                                                                                                                                      أبو عبيدة: هو على قول من قال: (أكلوني البراغيث)) ، فـ (أمة) : اسم (ليس) ، و (سواء) : خبرها.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (قائمة) : ثابتة على أمر الله عز وجل، عن ابن عباس وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : (قائمة) بطاعة الله، الحسن وابن جريج : عادلة.

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج : المعنى: ذوو أمة مستقيمة; أي: طريقة.

                                                                                                                                                                                                                                      و (آناء الليل) : ساعاته، عن الحسن وغيره.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 108 ] ابن مسعود : يعني: صلاة العتمة.

                                                                                                                                                                                                                                      الثوري : الصلاة بين العشاءين.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس وغيره: نزلت الآية في ابن سلام ونظرائه، حين قالت اليهود: ما آمن بمحمد الا شرارنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وواحد (الآناء) ; قيل: (أني) ، وقيل: (أنى) ، وقيل: (إني) ، وقيل: (إنى) .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (وهم يسجدون) : يصلون، في قول الفراء ، والزجاج ; لأن القراءة لا تكون في الركوع والسجود.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: يراد به: السجود المعروف خاصة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (ويأمرون بالمعروف) : قيل: هو عموم، وقيل: يراد به: الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، و (النهي عن المنكر) : النهي عن مخالفته.

                                                                                                                                                                                                                                      (ويسارعون في الخيرات) أي: يعملونها مبادرين غير متثاقلين; لمعرفتهم بقدر ثوابها، وقيل: يبادرون بالعمل قبل الفوت.

                                                                                                                                                                                                                                      (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر) قيل: إن النفقة المذكورة ههنا عموم لنفقات الكفار، كانت في طاعة أو معصية; لأن كفرهم يحبط أعمالهم، وقيل: هي مخصوصة في أبي سفيان وأصحابه، ومن جرى مجراهم من المتحزبين على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هي في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حرب المشركين; لأنهم ينفقونها رياء غير مصدقين.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 109 ] وقيل: المراد بذلك: قول المنافقين بأفواههم; لأنهم لا ينتفعون به.

                                                                                                                                                                                                                                      و (الصر) : البرد، عن ابن عباس ، والحسن ، وغيرهما، وأصله: من الصرير الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة.

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج : الصر: صوت لهيب النار التي كانت في تلك الريح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (ظلموا أنفسهم) : [قيل: معناه: أذنبوا، فعوقبوا بإهلاك زرعهم، وقيل: ظلموا أنفسهم بأن] زرعوا في غير وقت الزراعة، أو في غير موضعها، فأدبهم الله تعالى; لوضعهم الشيء في غير موضعه.

                                                                                                                                                                                                                                      (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم) : (البطانة) : الخاصة الذين يطلعون على باطن الأمر، ومعنى (من دونكم) : من دون أهل دينكم، و (من) : تصلح أن تكون للتبعيض، كأنه قال: لا تتخذوا بعض المخالفين في الدين بطانة، وتصلح أن تكون لبيان الجنس، وقيل: هي زائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس والحسن : نزلت في قوم من المسلمين خالطوا حلفاء لهم من المشركين، واليهود، والمنافقين، وصافوهم بالمودة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 110 ] (لا يألونكم خبالا) أي: لا يقصرون في أمركم خبالا، و (الخبال) : الفساد.

                                                                                                                                                                                                                                      (ودوا ما عنتم) أي: ما شق عليكم، وتقدم القول في العنت.

                                                                                                                                                                                                                                      (ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله) : قال ابن عباس : يعني: بالكتب.

                                                                                                                                                                                                                                      (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) : لما يرونه من ائتلاف المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                                      و (الأنامل) : أطراف الأصابع، واحدها: أنملة.

                                                                                                                                                                                                                                      (قل موتوا بغيظكم) : دعاء عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      (إن تمسسكم حسنة تسؤهم) أي: ظفر وغنيمة.

                                                                                                                                                                                                                                      (وإن تصبكم سيئة) أي: هزيمة وغلبة.

                                                                                                                                                                                                                                      (إن الله بما يعملون محيط) : وعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية