الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير:

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه قيل: هو لمن تقدم ذكره من السارق والسارقة، والمعنى على هذا عند أكثر العلماء: أن توبته تمحو عنه إثم فعله، ولا يسقط عنه الحد، وقد تقدم الاختلاف فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد به: الكفار، وتوبة الكافر تدرأ الحد عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 458 ] ألم تعلم أن الله له ملك السماوات : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المراد به: اليهود الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة .

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآية:

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد: يعني: المنافقين، قال: وقوله: ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يعني به: اليهود، ويعني: أنهم عيون لقوم آخرين لم يأتوك.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس: معنى سماعون للكذب : قائلون له.

                                                                                                                                                                                                                                      سماعون لقوم آخرين : أرسلوا بهم في قصة الزانيين .

                                                                                                                                                                                                                                      يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه أي: إن أفتاكم محمد بالجلد; فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم; فلا تقبلوه.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة: إنما كان ذلك في قتيل منهم، فقالوا: إن أفتاكم بالدية; فاقبلوا وإن أفتاكم بالقود; فاحذروه، قال: وكان القتيل من بني قريظة، قتله بنو النضير، وكانت النضير إذا قتلت قتيلا; أدت الدية، وإن قتل لهم قتيل; لم [ ص: 459 ] يرضوا إلا بالقود; فأرادوا أن يرفعوا أمر القتيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم منافق: إن قبلت منكم الدية; فأعطوها; فإن محمدا يحكم عليكم بالقود.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن معنى سماعون للكذب : سماعون من أجل الكذب; أي: إنما يسمعون منك; ليكذبوا عليك، روي ذلك عن الحسن، وقاله الزجاج.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن قوله: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر : نزل في أبي لبابة، حين أشار إلى بني قريظة إذ أرادوا أن ينزلوا على حكم سعد أنما هو الذبح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا، حين ارتد عن الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إن السماعين للكذب: يهود فدك، والذين لم يأتوا: يهود المدينة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا : أصل (الفتنة): الاختبار.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحسن: معناها ههنا: العذاب.

                                                                                                                                                                                                                                      السدي: المعنى: من يرد الله إضلاله.

                                                                                                                                                                                                                                      الزجاج: المعنى: من يرد الله فضيحته بإظهار ما ينطوي عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم : هذا بيان أن الله عز وجل قضى عليهم بالكفر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 460 ] لهم في الدنيا خزي قيل: هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم، ثم أحضرت التوراة، فوجدوا فيها الرجم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: سماعون للكذب أكالون للسحت : يجوز أن يكون سماعون للكذب ، الثاني تأكيدا للأول، ويجوز أن يكون معنى الأول: يسمعون من أحبارهم تحريفهم، ومعنى الثاني: يسمعون ما تقول; ليكذبوا عليك.

                                                                                                                                                                                                                                      و (السحت): الرشا، عن ابن مسعود وغيره، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: السحت: الرشوة في الحكم ، وعن ابن مسعود أيضا أنه قال: (السحت): أن يقضي الرجل لأخيه حاجة، فيهدي إليه هدية; فيقبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (السحت): الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وعسب [ ص: 461 ] الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن، والاستجعال في المعصية.

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل (السحت): الاستئصال، أسحت الله المال إسحاتا، وسحته; إذا استأصله، فسمي ما يأخذونه من الرشا سحتا; لأنه يسحت أديانهم، ويؤديهم إلى عذاب الاستئصال، ومن جعل كسب الحجام وما ذكر معه سحتا; فمعناه: أنه يسحت مروءة آخذه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك أي: من بعد حكم الله الذي في التوراة، وقيل: من بعد تحكيمهم إياك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الآية، وفي قوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس دليل على أن شرائع الأنبياء المتقدمة لازمة لنا، ما لم تنسخ.

                                                                                                                                                                                                                                      وما أولئك بالمؤمنين أي: من تولى عن حكم الله; فليس بمؤمن.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فيها هدى ونور : (الهدى والنور): بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأحكام الحلال والحرام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا : [قيل: معنى [ ص: 462 ] الآية: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا ].

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، وعليهم)، فحذف (وعليهم) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: (اللام) بمعنى: (على)، والمعنى: يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا، وكذلك قيل في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر بريرة: اشترطي لهم الولاء : إن معناه: عليهم، وكذلك قيل في قوله تعالى: وإن أسأتم فلها : معناه: فعليها.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (أسلموا): استسلموا لأمر الله عز وجل، وانقادوا.

                                                                                                                                                                                                                                      والربانيون والأحبار أي: ويحكم بها الربانيون والأحبار; وهم العلماء.

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد: (الربانيون): فوق العلماء.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض أهل اللغة: معنى (الربانيين): أرباب العلم، والألف والنون للمبالغة.

                                                                                                                                                                                                                                      وواحد (الأحبار): (حبر)، [مأخوذ من: التحبير; وهو التحسين، فهم يحبرون العلم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 463 ] الفراء: يقال للعالم: حبر]، وحبر، وسمي المداد حبرا على معنى: مداد حبر; لأنه يحبر به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: بما استحفظوا من كتاب الله أي: بما استودعوا من علمه، والباء متعلقة بـ (الربانيين والأحبار)، كأنه قال: العلماء بما استحفظوا من علمه، أو تكون متعلقة بـ (يحكم) ; أي: يحكمون بما استحفظوا.

                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا عليه شهداء أي: شهداء على الحكم أنه من عند الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس: شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون : قال ابن عباس: هذا خاص فيمن جحد حكم الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هو في اليهود خاصة; لجحودهم حكم الله تعالى، وعدولهم عن

                                                                                                                                                                                                                                      أحكامه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله، من المسلمين، ومن

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 464 ] اليهود، والكفار، قاله ابن مسعود، والحسن، وغيرهما، ومعنى هذا القول: أن يكون الحاكم بغير ما أنزل الله معتقدا استحلال ما فعله، فأما من فعل ذلك، وهو معتقد أنه راكب محرما; فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم أي: على آثار النبيين الذين أسلموا.

                                                                                                                                                                                                                                      وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه : يجوز أن يكون مستأنفا، ويجوز أن يكون على إضمار القول; المعنى: وقلنا لهم: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه; ومعنى الآية: أنهم أمروا أن يحكموا بما في الإنجيل مما لم ينسخ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه (المهيمن): الأمين، عن ابن عباس والحسن وغيرهما، وعن ابن عباس أيضا وابن جبير: معناه: مؤتمن، وهو بمعنى الأول.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة: معناه: الشاهد، وقيل: الحافظ.

                                                                                                                                                                                                                                      أبو عبيدة: هيمن على الشيء يهيمن، فهو مهيمن; إذا كان حافظا له.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 465 ] المبرد: أصله: مؤيمن، أبدل من الهمزة هاء.

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بـ (المهيمن) ههنا في قول ابن عباس، والحسن، وغيرهما: الكتاب، وقال مجاهد: المراد به: النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      و (الشرعة) و (الشريعة): الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى [النجاة، و"الشريعة" في اللغة: الطريق الذي يتوصل به إلى] الماء.

                                                                                                                                                                                                                                      و (المنهاج): الطريق المستبين، وهو النهج، والمنهج.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس، والحسن، وغيرهما: شرعة ومنهاجا : سنة وسبيلا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى الآية: أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا في الشرائع والعبادات، والأصل التوحيد، ولا اختلاف فيه، روي معنى ذلك عن قتادة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: (الشرعة والمنهاج): القرآن لجميع الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بعض العلماء بهذه الآية: على أن شرائع الأنبياء غير لازمة لنا إلا أن نؤمر باتباعها، وهذا خلاف القول الذي قدمناه قبل هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية