التفسير:
تقدم القول في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .
وقوله تعالى: إنه لا يفلح الظالمون : قيل: معناه: إنه لا يفلح الظالمون في الدنيا، ثم استأنف ويوم نحشرهم جميعا ; على معنى: اذكر يوم نحشرهم، وقيل: المعنى: لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم جميعا; فلا يوقف على هذا التقدير على قوله: (الظالمون); لأنه متصل.
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين يعني: أنهم انتفوا من الشرك حين رأوا الحقائق، وقد تقدم القول في ذلك عند قوله: ولا يكتمون الله حديثا [النساء: 42].
وقيل: إنهم إنما تبرءوا من الشرك حين رأوا أن الله يغفر الذنوب إلا الشرك.
[ ص: 568 ] هذا خاص في المنافقين، جروا على عادتهم في الدنيا. الحسن:
ومعنى (فتنتهم): عاقبة فتنتهم; أي: كفرهم، معناه: معذرتهم. قتادة:
(انظر كيف كذبوا على أنفسهم); أي: كيف يكذبون في الآخرة، فأخبر عنه بالماضي، على ما قدمناه من القول في مثله، وجاز أن يكذبوا في الآخرة; لأنه موضع دهش و ذهول عقول.
وقيل: لا يجوز أن يقع الكذب منهم في الآخرة; والمعنى: انظر كيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا; فمعنى والله ربنا ما كنا مشركين على هذا: ما كنا مشركين عند أنفسنا، والنظر في قوله: (انظر) يراد به نظر الاعتبار.
وضل عنهم ما كانوا يفترون ; أي: فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله، فلم يغن عنهم شيئا، عن وغيره، وقيل: المعنى: غرب عنهم افتراؤهم; لدهشهم وذهول عقولهم. الحسن،
ومنهم من يستمع إليك يعني: من المشركين.
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه : (الأكنة): جمع (كنان); وهو الغطاء; والمعنى: كراهة أن يفقهوه، أو لئلا يفقهوه.
[ ص: 569 ] وفي آذانهم وقرا : (الوقر): الثقل في الأذن،وقرت الأذن توقر، و (الوقر) بالكسر: الحمل.
حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين : قال ابن عباس:
يعني: أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها; أي: يكتبونها.
واحدها: (أسطورة)، عن كـ (أحدوثة وأحاديث). الأخفش; هو جمع (أسطار); كـ (أبيات وأباييت)، و (أسطار): جمع (سطر). الزجاج: واحدتها: (إسطارة); وهي الترهات. أبو عبيدة:
وقيل: هو جمع لا واحد له; كـ (مذاكير)، و (عباديد).
ومجادلتهم التي ذكرها الله تعالى ههنا: قولهم: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟! عن ابن عباس.
وهم ينهون عنه وينأون : (النهي): الزجر، و (النأي): البعد، والمراد به - فيما روي عن -: ابن عباس أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، و (الهاء): للنبي صلى الله عليه وسلم; [ ص: 570 ] والمعنى: ينهون عن أذاه، ويتباعدون عن الإيمان به، وعن أيضا، ابن عباس وغيرهما: أنه عام لجميع الكفار، و (الهاء): للنبي صلى الله عليه وسلم; فمعنى (ينهون عنه) على هذا: ينهون عن اتباعه. والحسن،
وإن يهلكون إلا أنفسهم أي: وبال ذلك راجع عليهم.
ولو ترى إذ وقفوا على النار الآية:
وضعت (إذ) في موضع الاستقبال، على ما قدمناه من تحقيق إخبار الله تعالى، ومعنى على (النار): أنهم كانوا فوقها وهي تحتهم، وقيل: عاينوها، وقيل: دخلوها.
فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين : تمنوا ذلك حين لا ينفعهم التمني، وجواب (لو) محذوف; والمعنى: لو تراهم في تلك الحال; لرأيت أسوأ حال.
بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل : (بل): إضراب عن تمنيهم وادعائهم الإيمان لو ردوا; ومعنى (بدا لهم) في قول بدا لبعضهم ما كان يخفيه بعض، وقيل: بدا لهم وبال ما كانوا يخفون من الكفر. الحسن:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه : قيل: معناه: لو ردوا قبل معاينة العذاب، وقيل: بعد معاينته.
[ ص: 571 ] وقوله: وإنهم لكاذبون : معناه مذكور عند ذكر وجوه القراءات.
وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا : هذا إخبار عنهم بما كانوا يقولونه في الدنيا، فهو مستأنف.
هو داخل في قوله: ابن زيد: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ; أي: لعادوا وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.
ولو ترى إذ وقفوا على ربهم : جواب (لو) محذوف، لتعظيم شأن الوقوف.
قال أليس هذا بالحق : تقرير وتوبيخ.
وقوله: حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة : سميت القيامة (الساعة); لسرعة الحساب فيها، ومعنى (بغتة): فجأة.
قالوا يا حسرتنا : النداء للحسرة، ومعناه لغيرها; لأنه تنبيه على عظم شأنها; والمعنى: تعالي يا حسرة; فهذا وقتك وأوانك، والهاء في (فيها) تعود على (الساعة) في قول والمعنى: على ما فرطنا في التقدمة لها. الحسن;
وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ; (الأوزار): الأثقال من الإثم، يقال منه:
(وزر يزر)، و (وزر يوزر)، فهو (وازر وموزور).
[ ص: 572 ] وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو يعني: متاعها، لا ما فيها من أمور الآخرة، (واللعب): ما لا ينتفع به، و (اللهو): ما يلهى به.
وقيل: إن أصله: الصرف عن الشيء، من قولهم: (لهيت عنه)، وفيه بعد; لأن الذي معناه الصرف لامه ياء; بدليل قولهم: (لهيان)، ولام الأول واو.
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون : (قد) ههنا: للتقريب، كأنه تقريب حال الحزن من حال الخطاب، وقيل: معناها ههنا: التقليل; كأنه يقل حزنه بما يقولون; لتسلية الله تعالى إياه، والمراد به: قولهم: شاعر، وساحر، ومجنون، وشبهه.
فإنهم لا يكذبونك ; أي: لا يكذبونك بحجة، قال قتادة، وغيرهما: هو في المعاندين الذين علموا صدق النبي، صلى الله عليه وسلم وجحدوه; طلبا للرياسة. والسدي،
وقيل: المعنى: لا يكذبونك، إنما يكذبون ما جئت به.
[وقيل: المعنى: لا يعتقدون تكذيبك كما يظهرون.
[ ص: 573 ] وقيل: المعنى: لا يكذبونك في الأمر الذي توافق فيه، كتبهم، وإن كذبوك في بعضه.
وقيل: المعنى: لا يكذبونك كلهم، وإن كذبك بعضهم، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم.
ومن خفف (يكذبونك); فمعناه: لا يجدونك كاذبا، وقيل: معناه:
لا ينسبونك إلى الكذب، فيرجع إلى معنى قراءة التشديد.
ولقد كذبت رسل من قبلك الآية: هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد جاءك من نبإ المرسلين : فاعل (جاءك) مضمر; والمعنى: جاءك من نبأ المرسلين نبأ.
وإن كان كبر عليك إعراضهم أي: إعراضهم عن الإيمان.
فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء : (النفق): السرب النافذ، ومنه: نافقاء اليربوع، وقد تقدم، و (السلم): المصعد، وهو مشتق من (السلامة); لأنه يسلم الصاعد فيه إلى مصعده; والمعنى: إن استطعت ذلك [ ص: 574 ] فافعله، أعلمه الله تعالى أنه لا يقدر مع بلوغ غاية جهده أن يهدي من سبق في علم الله أنه لا يهتدي.
ولو شاء الله لجمعهم على الهدى أي: لأراهم من الآيات ما يضطرهم إلى الإيمان به.
وقيل: لو شاء لخلقهم مؤمنين، وهذا رد على القدرية.
فلا تكونن من الجاهلين : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: أمته.
إنما يستجيب الذين يسمعون أي: يقبلون ما يسمعونه، وهذا تمام الكلام، ثم قال: (والموتى يبعثهم الله).
قال المعنى: والكفار حين يبعثهم الله يسمعون; فـ (الموتى): الكفار. مجاهد:
(الموتى): مثل للكفار; والمعنى: يهدي من يشاء منهم إلى الإيمان، فذلك بعثه. الحسن:
وقيل: (الموتى): كل من مات.
وقالوا لولا نـزل عليه آية من ربه أي: هلا نزل، طلبوا نزول الآية وهم يرونها.
[ ص: 575 ] طلبوا أن يجمعهم على الهدى; يعني: جمع إلجاء. الزجاج:
ولكن أكثرهم لا يعلمون ; أي: لا يعلمون ما عليهم في إنزالها إن لم يؤمنوا بها، وقيل: لا يعلمون أن الله قادر على إنزالها.
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ; أي: من هذه قدرته يقدر على الإتيان بالآيات، وخص بالذكر ما في الأرض دون السماء; لأنه الذي يعرفونه ويعاينونه.
ولا طائر يطير بجناحيه : تأكيد; لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطائر مجازا.
إلا أمم أمثالكم : يعني: أنه خلقهم، ودبرهم، وكتب آثارهم وآجالهم، كما فعل بكم.
ما فرطنا في الكتاب من شيء ; أي: من شيء تحتاج إليه من أمور الدين والدنيا، وقيل: إنه بين في الكتاب كل شيء، ودلك عليه بدلالة مشروحة أو مجملة، و (الكتاب) على هذين القولين: القرآن، وقيل: إنه يعني به اللوح المحفوظ، فيه ما كان، وما هو كائن، قاله ابن عباس.
ثم إلى ربهم يحشرون يعني: من يعقل، وما لا يعقل من البهائم، وقال [ ص: 576 ] حشر البهائم: موتها، وقال ابن عباس: أبو ذر، وأبو هريرة، تحشر إلى الموقف. والحسن:
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم : تمثيل، حسب ما تقدم في (البقرة) [18]. (في الظلمات); أي: ظلمات الكفر.
وقيل: إن المعنى: صم وبكم في الآخرة، فيكون حقيقة.
من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم : هذا إبطال لمذاهب القدرية، حسب ما تقدم في أمثاله.