وقال لما بعث الله عز وجل وهب بن منبه : موسى ، وهارون عليهما السلام إلى فرعون قال لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ، ولا يعجبنكما ما تمتع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا ، وزينة المترفين فلو ، شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن قدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، فأزوي ذلك عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي ، إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وإني لأجنبهم ملاذها ، كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن منازل العرة وما ذاك لهوانهم علي ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا إنما يتزين لي أوليائي بالذل ، والخوف والخضوع والتقوى تنبت في قلوبهم وتظهر ، على أجسادهم ، فهي ثيابهم التي يلبسون ، ودثارهم الذي يظهرون ، وضميرهم الذي يستشعرون ، ونجاتهم التي بها يفوزون ، ورجاؤهم الذي إياه يأملون ، ومجدهم الذي به يفخرون ، وسيماهم التي بها يعرفون فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل لهم قلبك ، ولسانك واعلم أنه ، ثم أنا الثائر له يوم القيامة . من أخاف لي وليا ، فقد بارزني بالمحاربة
وخطب كرم الله وجهه يوما خطبة ، فقال فيها : اعلموا أنكم ميتون ، ومبعوثون من بعد الموت ، وموقوفون على أعمالكم ، ومجزيون بها ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، فإنها بالبلاء محفوفة ، وبالفناء معروفة ، وبالغدر موصوفة ، وكل ما فيها إلى زوال وهي بين ، أهلها دول وسجال لا تدوم أحوالها ولا يسلم من شرها نزالها بينا أهلها منها في رخاء وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور أحوال ، مختلفة ، وتارات منصرفة العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لا يدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ، ترميهم بسهامها وتقصيهم ، بحمامها وكل حتفه فيها مقدور وحظه فيها موفور واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا ، وأشد منكم بطشا وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها وأجسادهم بالية ، وديارهم على عروشها خاوية ، وآثارهم عافية واستبدلوا بالقصور المشيدة ، والسرر والنمارق الممهدة ، الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة ، فمحلها مقترب ، وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين ، وأهل محلة متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا يتواصلون تواصل الجيران ، والإخوان على ما بينهم من قرب المكان والجوار ، ودنو الدار ، وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلا وأكلتهم الجنادل والثرى ، وأصبحوا بعد الحياة أمواتا ، وبعد نضارة العيش رفاتا فجع بهم الأحباب ، وسكنوا تحت التراب وظعنوا فليس لهم إياب هيهات هيهات علي كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون فكأن ، قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى ، والوحدة في دار المثوى ، وارتهنتم في ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو عاينتم الأمور ، وبعثرت القبور وحصل ما في الصدور وأوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل ، فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب ، وهتكت عنكم الحجب والأستار وظهرت منكم العيوب والأسرار ? هنالك تجزى كل نفس بما كسبت إن الله عز وجل يقول ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، وقال تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية . جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابه متبعين ، لأوليائه ، حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله . إنه حميد مجيد .
وقال بعض الحكماء : الأيام سهام ، والناس أغراض ، والدهر يرميك كل يوم بسهامه ، ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق جميع أجزائك فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك ، وسرعة الليالي في بدنك لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص ، لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك ، واستثقلت ممر الساعة بك ، ولكن تدبير الله فوق تدبير الاعتبار وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها وإنها لأمر من العلقم إذا عجنها الحكيم وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها ، وما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ اللهم أرشدنا إلى الصواب وقال بعض الحكماء ، وقد استوصف الدنيا ، وقدر بقائها ، فقال : الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك ; لأن ما مضى عنك ، فقد فاتك إدراكه ، وما لم يأت ، فلا علم لك به والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته ، وتطويه ساعاته ، وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير ، والنقصان ، والدهر موكل بتشتيت الجماعات ، وانخرام الشمل ، وتنقل الدول ، والأمل طويل ، والعمر قصير ، وإلى الله تصير الأمور .
وخطب رحمة الله عليه فقال : يا أيها الناس ، إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فإنكم ، حمقى وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى ; إنما خلقتم للأبد ، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون . عباد الله ، إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها ، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه ، وخالدون فيه ، ثم غلبه البكاء ، ونزل . عمر بن عبد العزيز