كتاب ذم الجاه والرياء .
وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين .
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله علام الغيوب المطلع على سرائر القلوب المتجاوز عن كبائر الذنوب العالم بما تجنه الضمائر من خفايا العيوب البصير بسرائر النيات وخفايا الطويات الذي لا يقبل من الأعمال إلا ما كمل ووفي ، وخلص عن شوائب الرياء والشرك وصفا فإنه المنفرد بالملكوت فهو أغنى الأغنياء عن الشرك .
والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه المبرئين من الخيانة والإفك وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية التي هي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء . إن
ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرة العلماء فضلا عن عامة العباد والأتقياء ، وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكايدها .
وإنما يبتلى به العلماء والعباد المشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة فإنهم مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات ، وصانوها عن الشبهات ، وحملوها بالقهر على أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم ، فوجدت مخلصا من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ، ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم ، فسارعت إلى إظهار الطاعة ، وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق ، وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء ، وبالغوا في التقريظ والإطراء ونظروا إليه بعين التوقير والاحترام ، وتبركوا بمشاهدته ولقائه ، ورغبوا في بركة دعائه ، وحرصوا على اتباع رأيه ، وفاتحوه بالخدمة والسلام وأكرموه في المحافل غاية الإكرام وسامحوه في البيع والمعاملات وقدموه في المجالس ، وآثروه بالمطاعم والملابس وتصاغروا له متواضعين ، وانقادوا له في أغراضه موقرين فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات وشهوة هي أغلب الشهوات فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات واستلانت خشونة المواظبة على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات فهو ، يظن أن حياته بالله وبعبادته ، المرضية وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية ، التي تعمى عن دركها العقول النافذة القوية ويرى أنه مخلص في طاعة الله ، ومجتنب لمحارم الله ، والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزيينا للعباد ، وتصنعا للخلق ، وفرحا بما نالت من المنزلة والوقار ، وأحبطت بذلك ثواب الطاعات ، وأجور الأعمال وقد أثبتت اسمه في جريدة المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين .
وهذه مكيدة للنفس ، لا يسلم منها إلا الصديقون ، ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون ولذلك قيل : آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة .
وإذا كان الرياء هو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة للشياطين وجب شرح القول في سببه ، وحقيقته ، ودرجاته ، وأقسامه ، وطرق معالجته ، والحذر منه ، ويتضح الغرض منه في ترتيب الكتاب على شطرين : الشطر الأول في حب الجاه والشهرة ، وفيه بيان ذم الشهرة ، وبيان فضيلة الخمول ، وبيان ذم الجاه ، وبيان معنى الجاه وحقيقته ، وبيان السبب في كونه محبوبا أشد من حب المال ، وبيان أن الجاه كمال وهمي ، وليس بكمال حقيقي ، وبيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم ، وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم .
وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح وبيان علاج كراهة الذم ، وبيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم .
، فهي اثنا عشر فصلا ، منها تنشأ معاني الرياء ، فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب بلطفه ومنه وكرمه .
[ ص: 230 ]