وكل ، موجود فهو محب لذاته ، ولكمال ذاته ، ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته ، أو عدم صفات الكمال من ذاته .
وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك ، فإن لم يكن منك فأن تكون مستوليا عليه ، فصار الاستيلاء على الكل محبوبا بالطبع ؛ لأنه نوع كمال .
وكل موجود يعرف ذاته ، فإنه يحب ذاته ، ويحب كمال ذاته ، ويلتذ به ، إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه ، وعلى تغييره بحسب الإرادة ، وكونه مسخرا لك تردده كيف تشاء فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة معه إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته .
وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولي عليه قدرة الخلق كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ، ونفوس الملائكة والجن والشياطين ، وكالجبال والبحار .
وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها ، وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ، ومن جملتها قلوب الناس ، فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات .
، فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات ، أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والاطلاع على أسرارها ؛ فإن ذلك نوع استيلاء ؛ إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم ، والعالم كالمستولي عليه ؛ فلذلك أحب أن يعرف الله تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب ، وجميع عجائب السموات وجميع عجائب ، البحار والجبال ، وغيرها ؛ لأن ذلك نوع استيلاء عليها ، والاستيلاء نوع كمال .
وهذا يضاهي اشتياق من عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها ، كمن يعجز عن وضع الشطرنج فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به ، وأنه كيف وضع وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز ، والقصور عنه ولكنه ، يشتاق إلى معرفة كيفيته ، فهو متألم ببعض العجز متلذذ ، بكمال العلم إن علمه .
وأما القسم الثاني وهو : الأرضيات التي يقدر الإنسان عليها ، فإنه يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد ، وهي قسمان أجساد وأرواح .
أما الأجساد فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فيحب ، أن يكون قادرا عليها ، يفعل فيها ما يشاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع ؛ فإن ذلك قدرة ، والقدرة كمال ، والربوبية محبوبة بالطبع ؛ فلذلك والكمال من صفات الربوبية ، في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه وكذلك طلب ، استرقاق العبيد ، واستعباد الأشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة ؛ حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار ، وإن لم يملك قلوبهم فإنها ربما ، لم تعتقد كماله ؛ حتى يصير محبوبا لها ويقوم القهر ، منزلته فيها ، فإن الحشمة القهرية أيضا لذيذة ؛ لما فيها من القدرة . أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها
القسم الثاني : نفوس الآدميين وقلوبهم ، وهي أنفس ما على وجه الأرض ، فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها ؛ لتكون مسخرة له ، متصرفة تحت إشارته وإرادته ؛ لما فيه من كمال الاستيلاء ، والتشبه بصفات الربوبية ، والقلوب إنما تتسخر بالحب ، ولا تحب إلا باعتقاد الكمال ، فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية ، والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان ، وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه ، ولا يتسلط عليه التراب فيأكله ، فإنه محل الإيمان والمعرفة ، وهو الواصل إلى لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذا معنى الجاه تسخير القلوب ومن تسخرت له القلوب كانت له قدرة واستيلاء عليها ، والقدرة والاستيلاء كمال ، وهو من أوصاف الربوبية .
فإذا محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة ، والمال والجاه من أسباب القدرة ، ولا نهاية للمعلومات ، ولا نهاية للمقدورات ، وما دام يبقى معلوم أو مقدور فالشوق لا يسكن ، والنقصان لا يزول .
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : فإذا : مطلوب القلوب الكمال ، والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور ، فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال ، فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوبا ، وهو أمر وراء كونه محبوبا لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات ، فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات ، بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض ، بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات ، ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات ؛ لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو ، نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية ، فكان محبوبا بالطبع ، إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن شاء الله تعالى . منهومان لا يشبعان