بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم .
مهما عرفت أن معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال ، فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا ، وينقطع بالموت كالمال ، والدنيا مزرعة الآخرة وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق ، والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله له فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام ، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاذ يرشده ، وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم وحبه ، لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم فإن الجاه وسيلة إلى الأغراض كالمال ، فلا فرق بينهما ، إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له ، بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء فهذا ، على التحقيق ليس محبا لبيت الماء ، فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه . فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة ،
وتدرك التفرقة بمثال آخر ، وهو أن كما يدفع ببيت الماء فضلة الطعام ولو كفي مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما أنه لو كفي قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به وقد يحب الإنسان زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفي الشهوة لبقي مستصحبا لنكاحها ، فهذا هو الحب دون الأول وكذلك ، الجاه والمال . الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة
وقد ، يحب كل واحد منهما على هذين الوجهين ، فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم ، وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ، ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية .
وما لم يتوصل إلى اكتسابه بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين ، وهو حرام ، وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي .
فإن قلت طلبه المنزلة والجاه : في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيفما كان أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص ؟ فأقول : يطلب ذلك على ثلاثة أوجه ، وجهان مباحان ، ووجه محظور .
أما الوجه المحظور : فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها مثل العلم والورع والنسب ، فيظهر لهم أنه علوي أو عالم ، أو ورع وهو لا ، يكون كذلك .
فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة .
وأما أحد المباحين : فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه الرب تعالى اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما وكان ، محتاجا إليه وكان صادقا فيه .
والثاني : أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ، ومعصية من معاصيه ؛ حتى لا يعلم فلا ، تزول منزلته به ، فهذا أيضا مباح ؛ لأن حفظ الستر على القبائح جائز ، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح .
وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به ، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر ، ولا يلقي إليه أنه ورع ، فإن قوله : إني ورع ، تلبيس وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع ، بل يمنع العلم بالشرب .