بيان السبب في حب المدح والثناء وارتياح النفس به ، وميل الطبع إليه ، وبغضها .
للذم ، ونفرتها منه .
، اعلم أن أربعة أسباب : لحب المدح ، والتذاذ القلب به
السبب الأول وهو الأقوى شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب ، وكل محبوب فإدراكه لذيذ .
فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واهتزت ، وتلذذت ، والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها ، فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جليا ظاهرا أو يكون مشكوكا فيه ، فإن كان جليا ظاهرا محسوسا كانت اللذة به أقل ، ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون ، فإن هذا نوع كمال ، ولكن النفس تغفل عنه ، فتخلو عن لذته ، فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة . وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم ، كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال ، الورع ، أو بالحسن المطلق ، فإن الإنسان ربما يكون شاكا في كمال حسنه وفي كمال ، علمه وكمال ورعه ، ويكون مشتاقا إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقنا لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه ، فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذته وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات ، خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق ذلك ، كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل ، فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام ، أو لا يكون بصيرا بذلك الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضا ويكرهه ؛ لأنه يشعره بنقصان نفسه ، والنقصان ضد الكمال المحبوب ، فهو ممقوت والشعور ، به مؤلم ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به ، كما ذكرناه في المدح .
السبب الثاني : أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح ، وأنه مريد له ، ومعتقد فيه ، ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب ، والشعور بحصوله لذيذ ، وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه ، كالملوك والأكابر ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة ، وبهذه العلة أيضا يكره الذم ، ويتألم به القلب ، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم ؛ لأن الفائت به أعظم .
السبب الثالث : أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه ، لا سيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ، ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملإ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ ، والذم أشد على النفس .
السبب الرابع : أن ، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح ، إما عن طوع وإما عن قهر ؛ فإن الحشمة أيضا لذيذة ؛ لما فيها من القهر والقدرة ، وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به ، ولكن كونه مضطرا إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه ، فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته ، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد . المدح يدل على حشمة الممدوح
فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد ، فيعظم بها الالتذاذ ، وقد تفترق فتنقص اللذة بها .
أما ، العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله ، كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم بعلم ، أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك ، فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال ، وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه ، وعلى لسانه ، وبقية اللذات . فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ، ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت ، اللذة الثانية ، وهو استيلاؤه على قلبه وتبقى ، لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء . فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلب اللذات كلها ، فلم يكن فيه أصلا لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم .
وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض .
والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى .
.