وأبصار أكثر الخلق ضعيفة ، مقصورة على العاجلة التي ، لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب ولذلك قال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال عز وجل : كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة فمن هذا حده فينبغي أن ، وهو أن يتفكر في الأخطار التي تستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء ، وخائف على الدوام على جاهه ، ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب ، والقلوب أشد تغيرا من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له والاشتغال بمراعاة القلوب ، وحفظ الجاه ، ودفع كيد الحساد ، ومنع أذى الأعداء ، كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلا عما يفوت في الآخرة ، فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة . يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة
وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا فهذا هو العلاج من حيث العلم .
وأما من حيث العمل : فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق ، وتفارقه لذة القبول ، ويأنس بالخمول ، ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق .
وهذا هو مذهب الملامتية إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ؛ ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه وهذا غير جائز لمن يقتدى به ؛ فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين ، وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك ، بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس ، كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد فلما علم بقربه منه استدعى طعاما وبقلا وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة ، فلما نظر إليه الملك سقط من عينه وانصرف فقال الزاهد : الحمد لله الذي صرفك عني .
ومنهم من شرب شرابا حلالا في قدح لونه لون الخمر ؛ حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط من أعين الناس .
، وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ، ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير ، كما فعل بعضهم ، فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه فدخل حماما ولبس ثياب ، غيره وخرج فوقف ، في الطريق حتى عرفوه ، فأخذوه ، وضربوه ، واستردوا منه الثياب ، وقالوا : إنه طرار وهجروه .