فكيف تسوي بينهما ، وإنما استثقالك للذام من الدين المحض . وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام ، والشيطان يحسن له ذلك ، ويقول : الذام قد عصى الله بمذمتك ، والمادح قد أطاع الله بمدحك ،
وهنا ، محض التلبيس فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته ثم إنه لا يستثقلهم ، ولا ينفر عنهم ، ويعلم أن المادح الذي مدحه لا يخلو عن مذمة غيره .
ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره ، كما يجد لمذمة نفسه ، والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره .
فإذا : العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين ؛ حتى يعتل على الله بهواه ، فيزيده ذلك بعدا من الله ، ومن لم يطلع على مكايد الشيطان ، وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة وفيهم قال الله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
الحالة الرابعة : وهي الصدق في العبادة ، أن يكره المدح ، ويمقت المادح إذ ؛ يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين ، ويحب الذام ؛ إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه ، ومرشد له إلى مهمه ، ومهد إليه حسناته فقد ، قال صلى الله عليه وسلم : رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: : ويل للصائم ، وويل للقائم ، وويل لصاحب الصوف ، إلا من، فقيل: يا رسول الله إلا من؟ فقال: إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا، وأبغض المدحة، واستحب المذمة وهذا شديد جدا ، وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية ، وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح ، ولا يظهر ذلك بالقول والعمل فأما ، الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها .
ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها لأنه لا بد وأن تتسارع ، إلى إكرام المادح ، وقضاء حاجاته وتتثاقل على ، إكرام الذام ، والثناء عليه ، وقضاء حوائجه ، ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر ، كما لا نقدر عليه في سريرة القلب ، ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان ، إن وجد فإنه الكبريت الأحمر ، يتحدث الناس به ولا يرى فكيف بما بعده من المرتبتين ، وكل واحدة من هذه الرتب أيضا فيها درجات .
أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت ، فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات ، ولا يبالي بمقارفة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين .
ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ، ولا يطلبه بالعبادات ، ولا يباشر المحظورات ، وهذا على شفا جرف هار فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب ، وحدود الأعمال ، لا يمكنه أن يضبطها ، فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد ، فهو قريب من الهالكين جدا .
ومنهم من لا يريد المدحة ، ولا يسعى لطلبها ، ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية ، فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها ، وإن جاهد نفسه في ذلك ، وكلف قلبه الكراهية ، وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح ، فهو في خطر المجاهدة ، فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه .