القسم الثاني : وهو أيضا على ثلاث درجات : الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها ،
الأولى : أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة ، كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ، ولا يطول القراءة ، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود ، وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين وقد قال « من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل » أي إنه : ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة ، فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة ومن جلس بين يدي إنسان متربعا أو متكئا ، فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديما للغلام على السيد ، واستهانة بالسيد لا محالة ، وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملإ دون الخلوة . ابن مسعود :
وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة ، أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد ؛ خوفا من مذمته ، وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث ؛ لأجل الخلق لا إكمالا لعبادة الصوم ، خوفا من المذمة ، فهذا أيضا من الرياء المحظور ؛ لأن فيه تقديما للمخلوقين على الخالق ، ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات .
فإن قال المرائي : إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة ؛ فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود وكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة وإنما ، قصدت صيانتهم عن هذه المعصية ، فيقال له : هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس وليس الأمر كذلك ؛ فإن ضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك ، فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر ، وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلا وولاية يتقلدها ، فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ، ولا يبالي به إذا كان الملك وحده ، وإذا كان عنده بعض غلمانه امتنع ؛ خوفا من مذمة غلمانه ، وذلك محال ، بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر .
نعم للمرائي ، فيه حالتان :
إحداهما : أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس ، وذلك حرام قطعا .
والثانية : أن يقول : ليس يحضرني الإخلاص في تحسين الركوع والسجود ، ولو خففت كانت صلاتي عند الله ناقصة وآذاني ، الناس بذمهم وغيبتهم فأستفيد ، بتحسين الهيئة دفع مذمتهم ولا أرجو عليه ثوابا فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة ، فيفوت الثواب ، وتحصل المذمة ، فهذا فيه أدنى نظر .
والصحيح أن 4فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة ، فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله ؛ فإن ذلك استهزاء كما سبق . الواجب عليه أن يحسن ويخلص
الدرجة الثانية : أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ، ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته ، كالتطويل في الركوع والسجود ، ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين ، والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال .
والزيادة في القراءة على السورة المعتادة ، وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان ، وطول الصمت ، وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة ، وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة .
وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدم عليه .
الثالثة : أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضا ، كحضوره الجماعة قبل القوم ، وقصده للصف الأول ، وتوجهه إلى يمين الإمام ، وما يجري مجراه .
وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة . فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به ، وبعضه أشد من بعض .
والكل مذموم .