فإذا : لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث ، وهي المعرفة والكراهة والإباء .
فالإباء ثمرة الكراهة ، والكراهة ثمرة المعرفة ، وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور العلم وضعف المعرفة بحسب الغفلة ، وحب الدنيا ، ونسيان الآخرة ، وقلة التفكر فيما عند الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة ، وبعض ذلك ينتج بعضا ويثمره وأصل ذلك كله حب الدنيا ، وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ، ومنبع كل ذنب لأن حلاوة حب الجاه والمنزلة ، ونعيم الدنيا ، هي التي تغضب القلب ، وتسلبه ، وتحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة ، بنور الكتاب والسنة ، وأنوار العلوم .
فإن قلت : فمن صادف من نفسه كراهة الرياء ، وحملته الكراهة على الإباء ، ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ، ومنازعته إياه ، إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه ، وغير محبب إليه ، فهل يكون في زمرة المرائين فاعلم أن وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها ، وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثمارها من معرفة العواقب ، وعلم الدين ، وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر ، فإذا فعل ذلك فهو الغاية في أداء ما كلف به . الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق
ويدل على ذلك من الأخبار ما روي لأن نخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال صلى الله عليه وسلم أو قد وجدتموه ? قالوا : نعم قال : ذلك صريح الإيمان ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له، ولا يمكن أن يقال: أراد بصريح الإيمان الوسوسة، فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة، والرياء فإنه وإن كان عظيما فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى، فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى. وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه وقالوا : تعرض لقلوبنا أشياء أنه قال: ابن عباس . الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة
» وقال أبو حازم « ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك ، وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه .
فإذا » : وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة ، والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان ، والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ، ومن آثار العقل إلا أن للشيطان ههنا مكيدة ، وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال ؛ حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصانا في منزلته عند الله .
والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب :
الأولى : أن يرده على الشيطان فيكذبه ، ولا يقتصر عليه ، بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه ؛ لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقيق نقصان لأنه اشتغل عن مناجاة الله ، وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق ، والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك .