وأما ما يمكن إسراره كالصدقة والصلاة فإن كان يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل ؛ لأن الإيذاء حرام . إظهار الصدقة
فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل ، فقال قوم : السر أفضل من العلانية وإن كان في العلانية قدوة وقال قوم : السر أفضل من علانية لا قدوة فيها ، أما العلانية للقدوة فأفضل من السر .
ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب النبوة ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين .
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم فله أجرها وأجر من عمل بها وقد روي في الحديث :
إن عمل السر يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفا ، ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله على عمل السر سبعين ضعفا . .
وهذا لا وجه للخلاف فيه ؛ فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة ، وإنما يخاف من ظهور الرياء ، ومهما حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره ، وهلك به ، فلا خلاف في أن السر أفضل منه .
ولكن على من يظهر العمل وظيفتان :
إحداهما : أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدى به أو يظن ذلك ظنا ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق وربما يقتدي به أهل محلته وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة .
فغير العالم إذا أظهر بعض الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق ، وذموه ، ولم يقتدوا به ، فليس له الإظهار من غير فائدة ، وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به .
والثانية : أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه الإظهار بعذر الاقتداء وإنما شهوته التجمل بالعمل ، وبكونه مقتدى به وهذا حال كل من يظهر أعماله إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم .
فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك ، وهو لا يشعر فإن الضعيف مثاله مثال الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة ، فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى تشبثوا به فهلكوا وهلك والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء مثله ، لا ، بل عذابه دائم مدة مديدة وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء ؛ فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص ، فتحبط أجورهم بالرياء والتفطن لذلك غامض ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له أخف : العمل حتى يقتدي الناس بعابد آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان ، فإن مال قلبه إلى أن يكون هو المقتدى به وهو المظهر للعمل فباعثه الرياء دون طلب الأجر ، واقتداء الناس به ، ورغبتهم في الخير ؛ فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره ، وأجره قد توفر عليه مع إسراره فما بال قلبه يميل إلى الإظهار ؟! لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم ، فليحذر العبد خدع النفس فإن النفس خدوع ، والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب ، وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات ، فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئا والسلامة في الإخفاء وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا ، فالحذر من الإظهار أولى بنا ، وبجميع الضعفاء .
القسم الثاني : أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ ، وحكمه حكم إظهار العمل نفسه ، والخطر في هذا أشد ؛ لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان ، وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة ، وللنفس لذة في إظهار الدعاوى عظيمة ، إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون ، والحكم فيه أن من قوي قلبه وتم إخلاصه ، وصغر الناس في عينه ، واستوى عنده مدحهم وذمهم وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه ، فهو جائز ، بل هو مندوب إليه ، إن صفت النية ، وسلمت عن جميع الآفات ؛ لأنه ترغيب في الخير ، والترغيب في الخير خير ، وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء .
قال سعد بن معاذ « ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي بغيرها ، ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة ، وما هو مقول لها ، وما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولا قط إلا علمت أنه حق .
». وقال رضي الله عنه « ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر ؛ لأني لا أدري أيهما خير لي » وقال عمر « ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على غيرها » . ابن مسعود
وقال رضي الله عنه ما تغنيت ، ولا تمنيت ، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عثمان ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها غير هذه، وكان قد قال لغلامه: ائتنا بالسفرة لنعبث بها حتى ندرك الغذاء، وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت: لا تبكوا علي؛ فإني ما أحدثت ذنبا منذ أسلمت، وقال شداد بن أوس رحمه الله تعالى ما قضى الله تعالى في بقضاء قط فسرني أن يكون قضى لي بغيره، وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله، فهذا كله إظهار لأحوال شريفة . عمر بن عبد العزيز