فإن قلت فاعلم أن لذلك علامات : فبأي : علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق مخلص في وعظه غير مريد رياء الناس ؟
إحداها : أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظا أو أغزر ، منه علما ، والناس له أشد قبولا فرح به ولم يحسده نعم ، لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل علمه .
والأخرى : أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه ، بل بقي كما كان عليه فينظر إلى الخلق بعين واحدة .
والأخرى : أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق ، والمشي خلفه في الأسواق .
ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها .
وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قال : كنت جالسا إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على برذون أصفر فدخل المسجد على برذونه فجعل يلتفت في المسجد فلم يرى حلقة أحفل من خلقه الحسن ، فتوجه نحوها حتى بلغ قريبا منها ، ثم ثنى وركه ، فنزل ، ومشى نحو الحسن ، فلما رآه الحسن متوجها إليه تجافى له عن ناحية مجلسه ، قال سعيد وتجافيت له أيضا عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج ، فجاء حتى جلس بيني وبينه ، الحجاج والحسن يتكلم بكلام له يتكلم به في كل يوم ، فما قطع الحسن كلامه قال سعيد فقلت في نفسي : لأبلون الحسن اليوم ، ولأنظرن هل يحمل الحسن جلوس إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحجاج الحسن هيبة أن ينقص من كلامه ، فتكلم الحجاج الحسن كلاما واحدا نحوا مما كان يتكلم به في كل يوم ، حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن من كلامه ، وهو غير مكترث به رفع يده فضرب بها على منكب الحجاج الحسن ثم قال : صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها خلقا ، وعادة ؛ فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مجالس الذكر رياض الجنة .
ولولا ما حملناه من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس ؛ لمعرفتنا بفضلها ، قال : ثم افتر فتكلم حتى عجب الحجاج الحسن ومن حضر من بلاغته ، فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قام فقال : عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني ! رجل شيخ كبير وأني ، أغزو فأكلف فرسا وبغلا ، وأكلف فسطاطا وأن ، لي ثلاثمائة درهم من العطاء وأن لي سبع بنات من العيال ، فشكا من حاله حتى رق الحجاج ، الحسن له ولأصحابه والحسن مكب فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال : ما لهم قاتلهم الله ، اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا ، وقتلوا الناس على الدينار والدرهم ، فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة وإذا ، أغزى أخاه أغزاه طاويا راجلا فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده ، فقام رجل من أهل الشام كان جالسا إلى الحسن ، فسعى به إلى وحكى له كلامه فلم يلبث الحجاج الحسن أن أتته رسل فقالوا : أجب الأمير ، فقام الحجاج ، الحسن ، وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم ، وقلما رأيته فاغرا فاه يضحك ، إنما كان يتبسم ، فأقبل حتى قعد في مجلسه فعظم الأمانة وقال : إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم ؛ إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ، ثم ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار إني أتيت هذا الرجل فقال : أقصر عليك من لسانك ، وقولك : إذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا وإذا أغزى أخاه أغزاه كذا ، لا أبا لك ! تحرض علينا الناس ، أما إنا على ذلك نتهم نصيحتك ، فأقصر عليك من لسانك ، قال : فدفعه الله عني .
وركب الحسن حمارا يريد المنزل ، فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوما يتبعونه ، فوقف ، فقال : هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء ، وإلا فارجعوا فما يبقي هذا من قلب العبد ? فبهذه العلامات وأمثالها تتبين سريرة الباطن .
ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون .
اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم الراحمين .